و أمّا قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك)

و أمّا قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك)

فقد أشار السيّد رحمه اللّه تعالى إلى ما جاء في جملة من كتب الفريقين بتفسير هذه الآية المباركة، ونحن نوضّح المطلب ـ الآن ـ على ضوء كتب العامّة فحسب….

فنقول:
ظاهر هذه الآية أنّها أمر من اللّه تعالى لرسوله أن يسأل المرسَلين الّذين أُرسلوا إلى أُممهم من قبله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم….
فهذا أمرٌ من اللّه، والمأمور بالسؤال هو: النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والمسؤول منهم هم: المرسَلون السابقون، والسؤال: ما هو؟
فها هنا أسئلة:
كيف يسأل الرسلَ وقد ماتوا قبله؟!!
وهل سألهم أو لا؟!!
وعلى الأوّل، فما كان السؤال؟! وما كان جوابهم؟!
وهذا الموضع من المواضع التي اضطربت فيها كلمات القوم فيه بشدّة:
يقول ابن الجوزي في تفسيره: «إن قيل: كيف يسأل الرسل وقد ماتوا قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: إنّه لمّا أُسري به، جُمع له الأنبياء فصلّى بهم، ثمّ قال له جبريل: (واسأل من أرسلنا من قبلك…) الآية… فقال: لا أسأل، قد اكتفيت….
رواه عطاء، عن ابن عبّاس، وهذا قول سعيد بن جبير، والزهري، وابن زيد؛ قالوا: جمع له الرسل ليلة أُسري به فلقيهم، وأُمر أن يسألهم، فما شكّ ولا سأل.
والثاني: إنّ المراد: اسأل مؤمني أهل الكتاب من الّذين أُرسلت إليهم الأنبياء….
روي عن ابن عبّاس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحّاك، والسدّي، في آخرين. قال ابن الأنباري: والمعنى: سل أتباع من أرسلنا قبلك، كما تقول: السخاء حاتم، أي: سخاء حاتم، والشعر زهير. أي: شعر زهير. وعند المفسّرين إنّه لم يسأل على القولين. وقال الزجّاج: هذا سؤال تقرير، فإذا سأل جميع الأُمم لم يأتوا بأنّ في كتبهم: أن اعبدوا غيري.
والثالث: إنّ المراد بخطاب النبيّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: خطابٌ أُمّته، فيكون المعنى: سلوا. قاله الزجّاج». هذا تمام ما ذكره ابن الجوزي(1).

أقول:
فهذه ثلاثة أجوبة ـ وتجدها في التفاسير الأُخرى أيضاً ـ أُولاها حملٌ على ظاهر الآية؛ فهو جواب على الحقيقة، والتاليان حملٌ على خلاف الظاهر؛ فهما جوابان على المجاز… ولعلّ المختار عند ابن الجوزي ـ بقرينة التقديم في الذِكر ـ هو الأوّل. واختار الآلوسي الجواب الثاني كما سيأتي، وعندهم أجوبةٌ أُخرى على المجاز، وهي باختصار:
1 ـ إنّ الخطاب للنبيّ، والسؤال مجاز عن النظر في أديانهم: هل جاءت عبادة الأوثان قطّ في مِلّة من ملل الأنبياء؟!(2) وهو الذي اختاره الزمخشري، وتبعه بعضهم كالنسفي، ثمّ قال الزمخشري: «وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب اللّه المعجز المصدّق لِما بين يديه، واخبار اللّه فيه بأنّهم يعبدون من دون اللّه ما لم ينزّل به سلطاناً، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها»(3).
أقول: فلمَ أُمرَ بالسؤال؟!
2 ـ إنّ الخطاب ليس للنبيّ، بل هو للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات، فقيل له: اسأل أيّها الناظر أتباع الرسل، أجاءت رسلهم بعبادة غير اللّه؟! فإنّهم يخبرونك أنّ ذلك لم يقع، ولا يمكن أن يأتوا به، واختاره أبو حيّان الأندلسي(4).
أقول كما قال الآلوسي فيه: ولعمري إنّه خلاف الظاهر جدّاً.
3 ـ إنّ الخطاب للنبيّ، والسؤال على الحقيقة، لكنّ المسؤول هو اللّه تعالى، فالمعنى: واسألنا عن من أرسلنا….
نقله أبو حيّان عن بعضهم واستبعده.
وقال الآلوسي: «وممّا يقضى منه العجب ما قيل…» ثمّ قال: «واسأل من قرأ أبا جاد أيرضى بهذا الكلام ويستحسن تفسير كلام اللّه تعالى المجيد بذلك؟!».
أقول: لا يرضى به قطعاً.
هذه نماذج من كلمات أئمّة القوم.
ولا يخفى اضطراب القوم في تفسير الآية المباركة، إن أبقوها على ظاهرها، فبمَ يجيبون عن الأسئلة؟!
وإن أرادوا التخلّص من الجواب عنها حملوا الآية على المجاز، وهو بابٌ واسع، وقد رأيت كيف يردّ بعضهم على الآخر في ما اختار!
وابن كثير الدمشقي لم يلتفت إلى شيء من هذه الأسئلة، فلم يبيّن المخاطب بالآية، ولا السؤال، ولا المسؤول… وإنّما قال:
«وقوله سبحانه وتعالى: (واسأل من أرسلنا…) أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة اللّه وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد؛ كقوله جلّت عظمته: (ولقد بعثنا في كلّ أُمّة رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت)»(5).
فهكذا فسرّ الآية ليكون في فسحة من المشكلة وطلباً للراحة منها، ثمّ ذكر القولين الآتيين.
وبعد….
فالمهمّ من هذه الأقوال كلّها قولان؛ ولذا لم يذكر غير واحد منهم ـ كابن كثير والشوكاني ـ غيرهما:
أحدهما: إنّ المراد سؤال الأنبياء، لمّا أُسري به عند ملاقاته لهم….
قالوا: وهذا قول المتقدّمين منهم، كسعيد بن جبير، والزهري، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم؛ ورووا عن عطاء، عن ابن عبّاس: «فقال: لا أسأل، قد اكتفيت».
والآخر: إنّ المراد سؤاله الأُمم، والمؤمنين من أهل الكتاب، من الّذين أُرسلت إليهم الأنبياء….
وهذا القول حكوه عن ابن عبّاس كذلك، وعن مجاهد وقتادة والضحّاك والسدّي، في آخرين، كما قال ابن الجوزي، واختاره ابن جرير الطبري، وكثير من المتأخّرين ـ كالآلوسي ـ، بل في الوسيط للواحدي(6) وتفسير البغوي نسبته إلى أكثر المفسّرين؛ قال البغوي: «يدلّ عليه قراءة عبداللّه وأُبَيّ: واسأل الّذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا»(7)… لكنّ ابن كثير قال: «وهذا كأنّه تفسير لا تلاوة. واللّه أعلم»(8).
وهذان القولان هما الأوّل والثاني من الأقوال الثلاثة التي ذكرها ابن الجوزي بتفسيره… فهل سأل صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أو لا؟! وعلى تقدير السؤال، فما كان الجواب؟!
قال ابن الجوزي: «وعند المفسّرين أنّه لم يسأل، على القولين»(9).

أقول:
فلا جواب عندهم عن السؤال، أو أنّ هناك جواباً صحيحاً مطابقاً لظاهر الآية ـ ولا خروج فيه عن الحقيقة إلى المجاز ـ مشتملاً على جميع جوانب المسألة، ولكنّهم لا يريدون التصريح به والإفصاح عنه؟!
إنّ هذا الموقف من ابن الجوزي وأمثاله لَيذكّرنا بموقفهم من حديث «الأئمّة بعدي اثنا عشر، كلّهم من قريش»؛ إذ يشرّقون ويغرّبون، ويختلفون ويضطربون… حتّى قال ابن الجوزي: «قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلّبت مظانّه وسألت عنه، فلم أقع على المقصود»(10)….
وما كلّ ذلك إلاّ لأنّهم لا يريدون الاعتراف بالحقيقة.
والعجيب، أنّهم في تفسير الآية (واسأل من أرسلنا…) يستدلّون بما يروون عن عبداللّه بن مسعود من أنّه قرأها: «واسأل الّذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا» ثمّ يتنازعون هل هو قراءة أو تفسير! ولا يعبأون بحديث مسند مرويّ عندهم عن عبداللّه بن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، في معنى الآية المباركة!!
بل القائلون بالقول الأوّل ـ من هذين القولين ـ لا يستندون في قولهم إلى هذا الحديث، مع أنّهم بأشدّ الحاجة إليه في بيان معنى الآية وإثبات قولهم في تفسيرها!!
وما كلّ ذلك إلاّ لاشتماله على ولاية أمير المؤمنين!!

(1) زاد المسير 7 : 319 ـ 320.
(2) تفسير الرازي 27 : 216، البحر المحيط 9 : 377، روح المعاني 25 : 86.
(3) الكشّاف 5 : 446. وانظر: تفسير النسفي 2 : 525 ـ 526؛ فقد قال بالعبارة عينها دون ذِكر للزمخشري!
(4) البحر المحيط 9 : 377.
(5) تفسير القرآن العظيم 7 : 230.
(6) الوسيط في تفسير القرآن 4 : 75.
(7) معالم التنزيل 5 : 120.
(8) تفسير القرآن العظيم 7 : 230.
(9) زاد المسير 7 : 320.
(10) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ـ للحافظ ابن حجر ـ 13 : 181.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *