الفصل الرابع

الفصل الرابع

ذكر ابن تيميّة في الجواب عن استدلال العلاّمة الحلّي بهذه الآية أحد عشر وجهاً.
قال العلاّمة: «البرهان الخامس والثلاثون: قوله تعالى: (يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وكونوا مع الصادقين). أوجب اللّه علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق، وليس إلاّ المعصوم، لتجويز الكذب في غيره، فيكون هو عليّاً، إذ لا معصوم من الأربعة سواه، وفي حديث أبي نعيم عن ابن عبّاس أنّها نزلت في عليّ».
نعم، أجاب ابن تيميّة بأحد عشر وجهاً، لكنّ ما ذكره إمّا دعوى بلا دليل، وإمّا مصادرة، وإمّا تطويل بلا طائل، وإليك تلك الوجوه مع التلخيص لألفاظه:
1 ـ أبو بكر قد ثبت أنّه صدّيق بالأدلّة الكثيرة، فيجب أن تتناوله الآية قطعاً، وأن نكون معه، وإذا كنّا معه مقرّين بخلافته، امتنع أن نقرّ بأنّ عليّاً هو الإمام دونه.
2 ـ إن كان عليّ صدّيقاً فعمر وعثمان أيضاً صدّيقون.
3 ـ هذه الآية نزلت في كعب بن مالك.
4 ـ هذه الآية نزلت في هذه القصّة، ولم يكن أحد يقال إنّه معصوم، لا عليّ ولا غيره، فعلم أنّ اللّه أراد مع الصادقين ولم يشترط كونه معصوماً.
5 ـ إنّه قال: (مع الصادقين) وهذه صيغة جمع، وعليّ واحد، فلا يكون هو المراد وحده.
6 ـ إنّ قوله: (مع الصادقين) إمّا أن يراد: كونوا معهم في الصدق وتوابعه، فاصدقوا كما يصدق الصادقون ولا تكونوا مع الكاذبين، كما في قوله: (واركعوا مع الراكعين).
وإمّا أن يراد به: كونوا مع الصادقين في كلّ شيء وإن لم يتعلّق بالصدق.
والثاني باطل.
فإذا كان الأوّل هو الصحيح، فليس هذا أمراً بالكون مع شخص معيّن، بل المقصود: اصدقوا ولا تكذبوا.
7 ـ إذا أُريد: كونوا مع الصادقين مطلقاً، فذلك لأنّ الصدق مستلزم لسائر البرّ، فهذا وصف ثابت لكلّ من اتّصف به.
8 ـ إنّ اللّه أمرنا أن نكون مع الصادقين، ولم يقل مع المعلوم فيهم الصدق، ولسنا مكلّفين في ذلك بعلم الغيب.
9 ـ هب أنّ المراد: مع المعلوم فيهم الصدق، لكنّ العلم كالعلم في قوله: (فإن علمتموهنّ مؤمنات) والإيمان أخفى من الصدق، فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يقال فيه ليس إلاّ العلم بالمعصوم، كذلك هنا يمتنع أن يقال: لا يعلم إلاّ صدق المعصوم.
10 ـ هب أنّ المراد علمنا صدقه، لكن يقال: أنّ أبا بكر وعمر وعثمان ونحوهم ممّن علم صدقهم، وإنّهم لا يتعمّدون الكذب، وإن جاز عليهم الخطأ أو بعض الذنوب، فإنّ الكذب أعظم.
11 ـ إنّه لو قدّر أنّ المراد به المعصوم، لا نسلّم الإجماع على انتفاء العصمة عن غير عليّ، فإنّ كثيراً من الناس الّذين هم خير من الرافضة يدّعون في شيوخهم هذا المعنى وإن غيّروا عبارته.
فاقرأ وتأمّل!!
لقد بيّنا ـ في الفصل السابق ـ كيفيّة الاستدلال بالآية على العصمة فالإمامة، ولا شيء من هذه الوجوه يصلح لأن يكون جواباً عنه:
أمّا الوجهان: الأوّل والثاني، فمصادرة
وأمّا الوجهان: الثالث والرابع، فلا فائدة فيهما، لأنّ سبب النزول غير مخصّص، إن كانت الآية متعلّقة بقضية كعب بن مالك.
وأمّا الوجهان: السادس والسابع، فتغافل عن الأحاديث الواردة في ذيل الآية، المفسّرة لها، والمبيّنة للمراد من (الصادقين) فيها… ومن الواضح أنّ الاستدلال بالآية إنّما هو بالنظر إلى تلك الأحاديث.
وأمّا الوجهان: الثامن والتاسع، فتجاهل لوجه الاستدلال بالآية، فإنّ الأمر بالكون مع شخص أو أشخاص على الإطلاق، لا يجوز إلاّ مع ثبوت عصمة الشخص أو الأشخاص، لأنّ المراد من (كونوا مع…) هو الاتّباع والإطاعة والانقياد المطلق.
وعلى هذا، فالّذين ثبتت عصمتهم بالأدلّة القطعيّة من الكتاب والسُنّة هم رسول اللّه وأهل بيته الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وأمّا الوجه العاشر، فمصادرة.
وأمّا الوجه الحادي عشر، فخروج عن الإجماع، ودعوى أنّ كثيراً من الناس يدّعون في شيوخهم هذا المعنى، واضحة الفساد، ولو كان هناك من يدّعي ذلك، فدعواه مردودة عند الكلّ.
وعلى الجملة، فإنّا لم نجد في هذه الوجوه مناقشةً علميّة للاستدلال، ولا جواباً عن الأحاديث الواردة في ذيل الآية المباركة، اللّهمّ إلاّ ما جاء في الوجه الخامس:
«إنّه قال (مع الصادقين) وهذه صيغة جمع، وعليّ واحد، فلا يكون المراد وحده».

فنقول:
أوّلاً: الموارد التي جاءت الآية المباركة فيها بصيغة الجمع والمراد شخص واحد، كثيرة في القرآن الكريم، وسنفصّل الكلام في ذلك عند الكلام على بعض الآيات الآتية.
وثانياً: إذا لم يكن المراد عليّ عليه السلام وحده، فالذي يكون مراداً معه في الآية هو مثله في العصمة، فلذا ورد في بعض الأحاديث: «محمّد وعليّ» وفي بعضها الآخر: «محمّد وأهل بيته» وحينئذ تكون الآية دالّةً على إمامة سائر الأئمّة أيضاً، ولا ارتباط بينها وبين غيرهم مطلقاً.
هذا موجز الكلام على ما أتى به ابن تيميّة في هذا المقام، وأغلب الظنّ أنّ المتقوّل أيضاً يعلم بعدم الجدوى فيه، فلم يَرَ الإطالة واكتفى بالإحالة!
وبعد، فإنّ الإطناب في الجواب، بتكثير الوجوه، وتصوير الشقوق، بما هو خارجٌ عن البحث، أو مصادرة بالمطلوب، أو اجتهاد في مقابل النصوص، تضييع للوقت، وتضليل للناس….
إنّ علماء الإماميّة الاثني عشرية لا يخرجون في استدلالاتهم عن حدود الكتاب والسُنّة المعتمدة ودلالة العقل السليم….
وهنا، الاستدلال قائم بالآية المباركة، وبالأحاديث الواردة في كتب الفريقين في تفسيرها، أمّا الآية فلا ينكرها لا ابن تيميّة ولا غيره، وأمّا الأحاديث فتلك موجودة في كتب القوم.
فهل بالإمكان إنكار وجودها فيها؟! أو نفي كون رواتها من أهل السُنّة؟! أو نفي كون أصحاب تلك الكتب من حفّاظ الحديث؟!
وعلى الجملة، ليس الاستدلال إلاّ بالكتاب والسُنّة، فما هو الجواب عنه؟! وأيّ فائدة في الانتقال من محلّ البحث إلى قضايا أُخرى؟!
إنّ هذه الأساليب من ابن تيميّة لتذكّرنا قول صفي الدين الهندي له، لمّا عُقِدَ مجلسٌ لمناظرته، فقال لابن تيميّة في أثناء البحث:
«أنت مثل العصفور، تنطّ من هنا إلى هنا، ومن هنا إلى هنا»!(1)
وكذلك ابن روزبهان، إلاّ أنّه أهون من ابن تيميّة في بعض الأحيان! فإنّه لم يذكر من الوجوه الأحد عشر!! إلاّ نزول الآية في قضية كعب، ثمّ قال:
«وإنّ صحّ دلّ على الفضيلة، لا على النصّ»(2).
فهذا ما ذكره ابن روزبهان، وقد عرفت الجواب عنه، فإنّ الحديث مشهور مستفيض وبعض أسانيده صحيحة، وإنّ الآية المباركة بضميمة الأحاديث الواردة في تفسيرها دالّة على عصمة أمير المؤمنين عليه السلام، فهي دالّة على إمامته بعد رسول اللّه الصادق الأمين، فأين الجواب؟!

* * *

(1) الدرر الكامنة بأعيان المائة الثامنة، للحافظ ابن حجر العسقلاني 4 : 15 ترجمة صفيّ الدين الهندي، المتوفّى سنة 715.
(2) إبطال الباطل، في الردّ على «نهج الحقّ» للعلاّمة الحلّي، مطبوع مع «إحقاق الحق 3 : 300» ومع «دلائل الصدق» في الردّ عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *