في قصّة المباهلة

في قصّة المباهلة

إنّه لمّا كان الغرض الأهمّ للعلماء ، من متكلّمين ومفسّرين ومحدّثين ، هو بيان سبب نزول الآية المباركة وذكر الحديث الوارد فيها ، وما في ذلك من دلالات… فإنّهم لم يتعرّضوا لشرح الواقعة ورواية جزئيّاتها ، ومن تعرّض منهم لها ـ كالزمخشري مثلاً ـ فقد اكتفى بنقل القدر المحتاج إليه في نظره !!
إلاّ أنا رأينا من المناسب إيراد القصّة بشي من التفصيل ، لما فيها من الفوائد المهمّة ، ثمّ نعقب ذلك بما وقع عليه الصلح ، وببعض المسنونات المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم أفضل الصلوات والتسليمات ، في يوم المباهلة.
ولعلّ ما يرويه السيّد الجليل ، الجامع بين العلم والعمل ، العلاّمة السيّد ابن طاووس الحلّي هو أجمع الروايات لخبر القصّة ، وهذا نصّه مع بعض التلخيص بلفظه ، قال رحمه الله :
« الفصل السادس : في ما يتعلّق بمباهلة سيّد أهل الوجود لذوي الجحود ، الذي لا يساوى ولا يجازى ، وظهور حجّته على النصارى والحبارى ، وإنّ في يوم مثله تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بالخاتم ، ونذكر ما نعمل من المراسم ، وفيه فصول :
فصل : في ما نذكره من إنفاذ النبيّ صلوات الله عليه وآله وسلّم لرسله إلى نصارى نجران ومناظرتهم فيما بينهم وظهور تصديقه في ما دعاه ، روينا ذلك بالأسانيد الصحيحة والروايات الصريحة إلى أبي المفضّل محمّد بن عبد المطّلب الشيباني رحمه الله من كتاب (المباهلة) ، ومن أصل كتاب الحسن بن إسماعيل ابن أشناس من كتاب عمل ذي الحجة ، في ما رويناه بالطرق الواضحة ، عن ذوي الهمم الصالحة ، لا حاجة إلى ذكر أسمائهم ، لأنّ المقصود ذكر كلامهم ، قالوا :
لمّا فتح النبيّ صلّى الله عليه وآله مكّة وانقادت له العرب ، وأرسل رسله ودعاته إلى الأممّ ، وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام وإلاّ أقرّا بالجزية والصغار ، وإلاّ أذنا بالحرب العوان ، أكبر شأنه نصارى نجران وخلطاؤهم ، من بني عبد المدان وجميع بني الحرث بن كعب ومن ضوى إليهم ونزل بهم من دهماء الناس ـ على اختلافهم هناك في دين النصرانيّة من الآووسيّة ، والسالوسيّة ، وأصحاب دين الملك ، والمارونيّة ، والعباد ، والنسطوريّة ـ وامتلأت قلوبهم ـ على تفاوت منازلهم ـ رهبةً منه ورعباً.
فإنّهم كذلك من شأنهم ، إذ وردت عليهم رسل رسول الله صلّى الله عليه وآله بكتابه ، وهم : عتبة بن غزوان ، وعبدالله بن أبي أميّة ، والهدير بن عبدالله أخو تيم بن مرّة ، وصهيب بن سنان أخو النمر بن قاسط ، يدعوهم إلى الإسلام ، فإن أجابوا فإخوان ، وإن أبوا واستكبروا فإلى الخطّة المخوفة إلى أداء الجزية عن يد ، فإن راغبوا عمّا دهاهم إليه من أحد المنزلتين وعندوا فقد آذنّهم على سواء ، وكان في كتابه صلّى الله عليه وآله : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ اللّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً مّن دون اللّه فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون )(1) .
قالوا : وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله لا يقاتل قوماً حتّى يدعوهم.
فازداد القوم لورود رسل نبيّ صلّى الله عليه وآله وكتابه نفوراً واقتراحاً ، ففزعوا لذلك إلى بيعتهم العظمى ، وأمروا ففرش أرضها وألبس جدرها بالحرير والديباج ، ورفعوا الصليب العظيم ، وكان من ذهب مرصّع أنفذه إليهم القيصر الأكبر ، وحضر ذلك بني الحرث بن الكعب ، وكانوا ليوث الحرب وفرسان الناس ، قد عرفت العرب ذلك لهم في قديم أيّامهم وفي الجاهلية ، فاجتمع القوم جميعاً للمشورة والنظر في أمورهم ، وأسرعت إليهم القبائل من مذحج وعكّ وحمير وأنمار ، ومن دنا منهم نسباً وداراً من قبائل سبأ ، وكلّهم قد ورم أنفه غضباً من قومهم ، ونكص من تكلّم منهم بالإسلام ارتداداً ، فخاضوا وأفاضوافي ذكر المسير بنفسهم وجمعهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، والنزّول به بيثرب لمناجزته.
فلمّا رأى أبو حامد حصين بن علقمة ـ أسقفهم الأوّل وصاحب مدارسهم وعلاّمهم ، وكان رجلا من بني بكر بن وائل ـ ما أزمع القوم عليه من إطلاق الحرب ، دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه ـ وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة ـ ثم قام فيهم خطيباً معتمداً على عصا ـ وكانت فيه بقيّة ، وله رأي ورويّة ، وكان موحّداً يؤمن بالمسيح عليه السلام وبالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويكتم إيمانه ذلك من كفرة قومه وأصحابه ـ فقال :
مهلاً بني عبد المدان مهلاً ، استديموا العافية والسعادة ، فإنّهما مطويّان في الهوادة ، دبّوا إلى قوم في هذا الأمر دبيب الذرّ ، وإيّاكم والسورة العجلى ، فإنّ البديهة بها لا ينجب ، إنّكم ـ والله ـ على فعل ما لم تفعلوا أقدر منكم على ردّ ما فعلتم ، ألا إنّ النجاة مقرونة بالأناة ، ألا ربّ إحجام أفضل من إقدام ، وكائن من قول أبلغ من صول ،ثمّ أمسك.
فأقبل عليه كرز بن سبرة الحارثي ـ وكان يومئذ زعيم بني الحارث بن كعب وفي بيت شرفهم والمعصب فيهم ، وأمير حروبهم ـ فقال : لقد انتفخ سحرك واستطير قلبك أبا حارثة ، فظلت كالمسبوع النزاعة المهلوع ، تضرب لنا الأمثال ، وتخوفنا النزال ، لقد علمت ـوحقّ المنّان ـ بفضيلة الحفّاظ بالنوء بالعب وهو عظيم ، وتلقح الحرب وهو عقيم ، تثقِفُ إوَدَ الملك الجبّار ، ولنحن أركان الرائش وذي المنار ، الّذين شددنا ملكهما ، وأمّرنا مليكهما ، فأي أيّامنا ينكر ؟! أم لأيّها ـ ويك ـ تلمز ؟! فما أتى على آخر كلامه حتّى انتظم نصل نبلة كانت في يده بكفه غيظاً وهو لا يشعر.
فلمّا أمسك كرز بن سبرة ، أقبل عليه العاقب ـ واسمه عبد المسيح بن شرحبيل ، وهو يومئذ عميد القوم ، وأمير رأيهم ، وصاحب مشورتهم ، الذي لا يصدرون جميعاً إلاّ عن قوله ـ فقال له :
أفلح وجهك ، وآنس ربعك ، وعزّ جارك ، وامتنع ذمارك ، ذكرت ـ وحقّ مغبّرة الجباه ـ حسباً صميماً ، وعيصاً كريماً ، وعزّاً قديماً ، ولكن ـ أبا سبرة ـ لكلّ مقام مقال ، ولكلّ عصر رجال ، والمرء بيومه أشبه منه بأمسه ، وهي الأيّام تهلك جيلاً وتديل قبيلاً ، والعافية أفضل جلباب ، وللآفات أسباب ، فمن أوكد أسبابه التعرض لأبوابها. ثمّ صمت العاقب مطرقاً.
فأقبل عليه السيّد ـ واسمه أهتم بن النعمان ، وهو يومئذ أسقف نجران ، وكان نظيرالعاقب في علوّ المنزلة ، وهو رجل من عاملة ، وعداده في لخم ـ فقال له : سعد جدك ، وسما جِدّك أبا وائلة ، إنّ لكلّ لا معة ضياءً ، وعلى كلّ صواب نوراً ، ولكن لا يدركه ـ وحقّ واهب العقل ـ إلاّ من كان بصيراً ، إنّك أفضيت وهذان فيما تصرّف بكما الكلم إلى سبيلىْ حزن وسهل ، ولكل على تفاوتكم حظّ من الرأي الربيق والأمر الوثيق إذا أصيب به مواضعه.
ثمّ إنّ أخا قريش قد نجدكم لخطب عظيم وأمر جسيم ، فما عندكم فيه قولوا وانجزوا، أبخوع وإقرار ؟ أم نزوع ؟!
قال عتبة والهدير والنفر من أهل نجران : فعاد كرز بن سبرة لكلامه ـ وكان كميّاً أبيّاً ـ فقال :
أنحن نفارق ديناً رسخت عليه عروقنا ، ومضى عليه آباؤنا ، وعرف ملوك الناس ثمّ العرب ذلك منّا ؟! أنتهالك إلى ذلك أم نقرّ بالجزية وهي الخزية حقّاً ؟! لا والله حتّى نجرّد البواتر من أغمادها ، وتذهل الحلائل عن أولادها ، أو نشرق نحن ومحمّد بدمائنا ، ثمّ يديل الله عزّ وجلّ بنصره من يشاء.
قال له السيّد : أربع على نفسك وعلينا أبا سبرة ، فإنّ سلّ السيف يسلّ السيوف ، وإنّ محمّداً قد بخعت له العرب وأعطته طاعتها ، وملك رجالها وأعنتها ، وجرت أحكامه في أهل الوبر منهم والمدر ، ورمقه الملكان العظيمان كسرى وقيصر فلا أراكم ـ والروح ـ لو نهد لكم إلاّ وقد تصدّع عنكم من خفّ معكم من هذه القبائل ، فصرتم جفاءً كأمس الذاهب ، أو كلحم على وضم.
وكان فيهم رجل يقال له : جهير بن سراقة البارقي ـ من زنادقة نصارى العرب ، وكان له منزلة من ملوك النصرانية ، وكان مثواه بنجران ـ فقال له : أبا سعد قل في أمرنا وأنجدنا برأيك ، فهذا مجلس له ما بعده.
فقال : فإنّي أرى لكم أن تقاربوا محمّداً وتطيعوه في بعض ملتمسه عندكم ، ولينطلق وفودكم إلى ملوك أهل ملّتكم ، إلى الملك الأكبر بالروم قيصر ، وإلى ملوك هذه الجلدة السوداء الخمسة ـ يعني ملوك السودان : ملك النوبة ، وملك الحبشة ، وملك علوه ، وملك الرعا ، وملك الراحات ، ومريس ، والقبط ، وكلّ هؤلاء كانوا نصارى ـ.
قال : وكذلك من ضوى إلى الشام وحلّ بها من ملوك غسّان ، ولخم ، وجذام ، وقضاعة ،وغيرهم من ذوي يمنكم ، فهم لكم عشيرة وموالي ومآل ، وفي الدين إخوان ـ يعني أنّهم نصارى ـ وكذلك نصارى الحيرة من العبّاد وغيرهم ، فقد صبت إلى دينهم قبائل تغلب بنت وائل وغيرهم من ربيعة بن نزار.
لتسير وفودكم ، ثمّ لتخرق إليهم البلاد آغذاذاً فيستصرخونهم لدينكم ، فيستنجدكم الروم ، وتسير إليكم الاساودة مسير أصحاب الفيل ، وتقبل إليكم نصارى العرب من ربيعة اليمن.
فإذا وصلت الأمداد واردةً سرتم أنتم في قبائلكم وسائر من ظافركم وبذل نصره ومؤازرته لكم ، حتّى تضاهئون من أنجدكم وأصرحكم من الأجناس والقبائل الواردة عليكم ، فأمّوا محمّداً حتّى سنحوا به جميعاً ، فسيعتق إليكم وافداً لكم من صبا إليه مغلوباً مقهوراً ، وينعتق به من كان منهم في مدرته مكثوراً ، فيوشك أن تصطلموا حوزته ، وتطفئوا جمرته ،ويكون لكم بذلك الوجه والمكان في الناس ، فلا تتمالك العرب حينئذ حتّى تتهافت دخولاً في دينكم ، ثمّ لتعظمنّ بيعتكم هذه ، ولتشرفنّ حتّى تصير كالكعبة المحجوجة بتهامة.
هذا الرأي فانتهزوه ، فلا رأي لكم بعده.
فأعجب القوم كلام جهير بن سراقة ، ووقع منهم كلّ موقع ، فكاد أن يتفرّقوا على العمل به ، وكان فيهم رجل من ربيعة بن نزار من بني قيس بن ثعلبة ، يدعى حارثة بن أثاك ، على دين المسيح عليه السلام ، فقام حارثة على قدميه وأقبل على جهير ، وقال متمثّلاً :
متـى ما تقد بالباطل الحقّ بابه *** وإن قدرت بالحقّ الرواسي ينقـدإذا ما أتيت الأمر من غير بابه *** ضلت وإن تقصد إلى الباب تهتـد
ثمّ استقبل السيّد والعاقب والقسّيسين والرهبان وكافّة نصارى نجران بوجهه ، لم تخلّط معهم غيرهم ، فقال : سمعاً سمعاً يا أبناء الحكمة ، وبقايا حملة الحجّة ، إنّ السعيد والله من نفعته الموعظة ، ولم يعش عن التذكرة ، ألا وإنّي أنذركم وأذكركم قول مسيح الله عزّ وجلّ.
ثمّ شرح وصيّته ونصّه على وصيّه شمعون بن يوحنّا ، وما يحدّث على أمّته من الإفتراق ، ثمّ ذكر عيسى عليه السلام ، وقال : إنّ الله جلّ جلاله أوحى إليه :
فخذ يا بن أمَتي كتابي بقوّة ، ثمّ فسّره لأهل سوريا بلسانهم ، وأخبرهم إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا الحيّ القيّوم ، البديع الدائم ، الذي لا أحول ولا أزول ، وإنّي بعثت رسلي وأنزلت كتبي رحمةً ونوراً وعصمةً لخلقي ، ثمّ إنّي باعث بذلك نجيب رسالتي ، أحمد ، صفوتي من برّيتي ، البارقليطا عبدي ، أرسله في خلق من الزمان ، أبتعثه بمولده فاران، من مقام أبيه إبراهيم عليه السلام ، أنزل عليه توراةً حديثةً ، أفتح بها أعيناً عمياً ، وآذاناً صمّاً ، وقلوباً غلفاً ، طوبى لمن شهد أيّامه ، وسمع كلامه ، فآمن به واتبع النور الذي جاء به.
فإذا ذكرت يا عيسى ذلك النبيّ فصلّ عليه فإنّي وملائكتي نصلّي عليه.
قال : فما أتى حارثة بن أثاك على قوله هذا حتّى أظلمّ بالسيّد والعاقب مكانهما ، وكرها ما قام به في الناس معرباً ومخبراً عن المسيح عليه السلام بما أخبر وأقدم من ذكر النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لأنّهما كانا قد أصابا بموضعهما من دينهما شرفاً بنجران ، ووجهاً عند ملوك النصرانية جميعاً ، وكذا عند سوقتهم ، وعربهم في البلاد ، فأشفقا أن يكون ذلك سبباً لانصراف قومهما عن طاعتهما لدينهما ، وفسخاً لمنزلتهما في الناس.
فأقبل العاقب على حارثة فقال : أمسك عليك يا حار ، فإنّ رادّ هذا الكلام عليك أكثر من قابله ، وربّ قول يكون بليّةً على قائله ، وللقلوب نفرات عند الإصداع بمظنون الحكمة ، فاتّق نفورها ، فلكلّ نبأ أهل ; ولكلّ خطب محلّ ، وإنّما الدرك ما أخذ لك بمواضي النجاة وألبسك جنّة السلامة ، فلا تعدلنّ بهما حظّاً ، فإنّي لم ألك ـ لا أباً لك ـ نصحاً. ثمّ أرّم يعني أمسك.
فأوجب السيّد أن يشرك العاقب في كلامه ، فأقبل على حارثة ، فقال :
إنّي لم أزل أتعرف لك فضلا تميل إليه الألباب ، فإيّاك أنّ تقتعد مطيّة اللجاج ، وأن توجف إلى السراب ، فمن عذر بذلك فلست فيه أيّها المرء بمعذور ، وقد أغفلك أبو واثلة وهو ولي أمرنا وسيّد حضرنا عتاباً ، فأوله اعتباراً. ثمّ تعلم أنّ ناجم قريش ـ يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ يكون رزؤه قليلاً ثمّ ينقطع ويخلو.
أنّ بعد ذلك قرن يبعث في آخره النبيّ المبعوث بالحكمة والبيان ، والسيف والسلطان ، يملك ملكاً مؤجّلاً تطبق فيه أمّته المشارق والمغارب ، ومن ذرّيّته الأمير الظاهر ، يظهر على جميع الملكات والأديان ، ويبلغ ملكه ما طلع عليه الليل والنهار ، وذلك ـ يا حار ـ أمل من ورائه أمد ومن دونه أجلّ ، فتمسّك من دينك بما تعلم وتمنع ـ لله أبوك ـ من أنس متصرّم بالزمان أو لعارض من الحدثان ، فإنّما نحن ليومنا ولغد أهله.
فأجابه حارثة بن أثال ، فقال : إيها عليك أبا قرّة ! فإنّه لا حظّ في يومه لمن لا درك له في غدوه ، اتّق الله تجد الله جلّ وتعالى بحيث لا مفزع إلاّ إليه ، وعرضت مشيّداً بذكر أبي واثلة ، فهو العزيز المطاع ، الرحب الباع وإليكما معاً يلقى الرحل ، فلو أضربت التذكرة عن أحد لتبزيز فضل لكنتماه ، لكنّها أبكار الكلام تهدى لأربابها ، ونصيحة كنتما أحقّ من أصغى لها ، إنّكما مليكا ثمرات قلوبنا ، ووليّا طاعتنا في ديننا فالكيّس الكيّس ـ يا أيّها المعظّمان ـ عليكما به ، أريا مقاماً يدهكما نواحيه وأهجرا سنّة التسويف في ما أنتما بعرضه ، آثرا الله في ما كان يؤثركما بالمزيد من فضله ، ولاتخلدا في ما أظلكما إلى الونية ، فإنّه من أطال عنان الأمر أهلكته العزّة ، ومن اقتعد مطيّة الحذر كان بسبيل آمن من المتالف ، ومن استنصح عقله كانت العبرة له لا به ، ومن نصح لله عزّ وجلّ آنسه الله جلّ وتعالى بعزّ الحياة وسعادة المنقلب.
ثمّ أقبل على العاقب معاتباً فقال :
وزعمت ـ أبا واثلة ـ أنّ راد ما قلت أكثر من قابله ، وأنت لعمر الله حريّ ألاّ يؤثر هذا عنك ، فقد علمت وعلمنا أمّة الإنجيل معاً بسيرة ما قام به المسيح عليه السلام في حواريه ومن آمن له من قومه ، وهذه منك فهّة لا يرحضها إلاّ التوبة والإقرار بما سبق به الإنكار.
فلمّا أتى على هذا الكلام صرف إلى السيّد وجهه ، فقال : لا سيف إلاّ ذو نبوة ولا عليم إلاّ ذو هفوة ، فمن نزع عن وهلة وأقلع فهو السعيد الرشيد ، وإنّما الآفة في الإصرار ، وعرضت بذكر نبيّين يخلقان بعد ابن البتول ، فأين يذهب بك عمّا خلّد في الصحف من ذكرى ذلك ؟! ألم تعلم ما أنبأ به المسيح عليه السلام في بني إسرائيل ؟! وقوله لهم : كيف بكم إذا ذهب بي إلى أبي وأبيكم وخلّف بعد أعصار يخلو من بعدي وبعدكم صادق وكاذب ؟!
قالوا : ومن هما يا مسيح الله ؟
قال : نبيّ من ذرّيّة إسماعيل عليهما السلام صادق ، ومتنبّئ من بني إسرائيل كاذب ، فالصادق منبعث منهما برحمة وملحمة، يكون له الملك والسلطان ما دامت الدنيا ، وأمّا الكاذب فله نبزٌ يذكر به المسيح الدجّال يملك فواقاً ثمّ يقتله الله بيدي إذا رجع بي.
قال حارثة : وأحذركم يا قوم أن يكون من قبلكم من اليهود أسوة لكم ، إنهم أنذروا بمسيحين ، مسيح رحمة وهدى ، ومسيح ضلالة ، وجعل لهم على كلّ واحد منهما آية وأمارةً ، فجحدوا مسيح الهدى وكذّبوا به ، وآمنوا بمسيح الضلالة الدجّال ، وأقبلوا على انتظاره وأضربوا في الفتنة وركبوا نضحها ، ومن قبل ما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وقتلواأنبياءه والقوّامين بالقسط من عباده ، فحجب الله عزّ وجلّ عنهم البصيرة بعد التبصرة بما كسبت أيديهم ، ونزع ملكتهم منهم ببغيهم وألزمهم الذلة والصغار ، وجعل منقلبهم إلى النار.
قال العاقب : فما أشعرك ـ يا حار ـ أن يكون هذا النبيّ المذكور في الكتب هو قاطن يثرب ، ولعلّه ابن عمّك صاحب اليمامة ، فإنّه يذكر من النبوّة ما يذكر منها أخو قريش ، وكلاهما من ذرّيّة إسماعيل ، ولجميعهما أتباع وأصحاب يشهدون بنبوّته ، ويقرون له برسالته ، فهل تجد بينهما في ذلك من فاصلة فتذكرها ؟
قال حارثة : أجل والله أجدها والله أكبر ، وأبعد ممّا بين السحاب والتراب ، وهي الأسباب التي بها وبمثلها تثبت حجّة الله في قلوب المعتبرين من عباده لرسله وأنبيائه.
وأمّا صاحب اليمامة فيكفيك فيه ما أخبركم به سفهاؤكم وغيركم ، والمنتجعة منكم أرضه، ومن قدم من أهل اليمامة عليكم ، ألم يخبركم جميعاً عن روّاد مسيلمة وسماعيه ، ومن أوفده صاحبهم إلى أحمد بيثرب فعادوا إليه جميعاً بما تعرّفوا هناك في بني قيلة وتبيّنوا به ؟!
قالوا : قدم علينا أحمد يثرب وبيارنا ثماد ، ومياهنا ملحة ، وكنّا من قبله لانستطيب ولا نستعذب ، فبصق في بعضها ومجّ في بعض ، فعادت عذاباً محلوليّة ، وجاش منها ما كان ماؤها ثماداً فحار بحراً.
قالوا : وتفل محمّد في عيون رجال ذوي رمد ، وعلى كلوم رجال ذوي جراح ، فبرئت لوقته عيونهم فما اشتكوها واندملت جراحاتهم فما ألموها ، في كثير ممّا أدّوا ونبّؤوا عن محمّد صلّى الله عليه وآله من دلالة وآية.
وأرادوا صاحبهم مسيلمة على بعض ذلك ، فأنعم لهم كارهاً ، وأقبل بهم إلى بعض بيارهم فمجّ فيها وكانت الركى معذوذبة فحارت ملحاً لا يستطاع شرابه ، وبصق في بئر كان ماؤها وشلاً فعادت فلم تبض بقطرة من ماء ، وتفل في عين رجل كان بها رمد فعميت ، وعلى جراح ـ أو قالوا جراح آخر ـ فاكتسى جلده برصاً ـ.
فقالوا لمسيلمة فيما ابصروا في ذلك منه ، واستبرؤوه.
فقال : ويحكم بئس الأمّة أنتم لنبيّكم والعشيرة لابن عمّكم أن كنتم تحيفتموني يا هؤلاء من قبل أن يوحى إليّ في شيء ممّا سألتم ، والآن فقد أذن لي في أجسادكم وأشعاركم دون بياركم ومياهكم ، هذا لمن كان منكم بي مؤمناً ، وأمّا من كان مرتاباً فإنّه لا يزيده تفلتي عليه إلاّ بلاءً ، فمن شاء الآن منكم فليأت لأتفل في عينه وعلى جلده.
قالوا : ما فينا ـ وأبيك ـ أحد يشاء ذلك ، إنّا نخاف أن يشمت بك أهل يثرب ; وأضربوا عنه حميّة لنسبه فيهم وتذممّاً لمكانه منهم.
فضحك السيّد والعاقب حتّى فحصا الأرض بأرجلهما ، وقالا : ما النور والظّلام والحقّ والباطل بأشدّ بياناً وتفاوتاً ممّا بين هذين الرجلين صدقاً وكذباً.
قالوا : وكان العاقب أحبّ ـ مع ما تبيّن من ذلك ـ أن يشيّد ما فرّط من تفريطه مسيلمة ويوثل منزلته ليجعل لرسول الله صلّى الله عليه وآله كفؤاً ، استظهاراً بذلك في بقاء عزّه وما طار له من السمو في أهل ملّته ، فقال : ولئن فخر أخو بني حنيفة في زعمه أنّ الله عزّ وجلّ أرسله ، وقال من ذلك ما ليس له بحقّ ، فلقد برّ في أن نقل قومه من عبادة الاوثان إلى الإيمان بالرحمن.
قال حارثة أنشدك بالله الذي دحاها ، وأشرق باسمه قمراها ، هل تجد في ما أنزل الله عزّ وجلّ في الكتب السابقة : يقول الله عزّ وجلّ : أنا الله لا إله إلاّ أنا ديّان يوم الدين ، أنزلت كتبي وأرسلت رسلي لأنستنقذ بهم عبادي من حبائل الشيطان ، وجعلتهم في بريّتي وأرضي كالنجوم الدراري في سمائي ، يهدون بوحيي وأمري ، من أطاعهم أطاعني ، ومن عصاهم فقد عصاني ، وإنّي لعنت وملائكتي في سمائي وأرضي واللاعنون من خلقي من جحد ربوبيّتي ، أو عدل بي شيئاً من بريّتي ، أو كذّب بأحد من أنبيائي ورسلي ، أو قال أوحي إلىّ ولم يوح إليه شيء ، أو غمص سلطاني ، أو تقمّصه متبرّياً ، وأكمه عبادي وأضلّهم عني ، ألا وإنّما يعبدني من عرف ما أريد في عبادتي وطاعتي من خلقي ، فمن لم يقصد إلىّ من السبيل التي نهجتها برسلي لم يزدد في عبادته منّي إلاّ بعداً.
قال العاقب : رويدك ، فأشهد لقد نبأت حقّاً.
قال حارثة : فما دون الحقّ من مقنع ، وما بعده لامرئ مفزع ، ولذلك قلت الذي قلت.
فاعترضه السيّد ـ وكان ذا محال وجدال شديد ـ فقال : ما أحرى وما أرى أخا قريش مرسلاً إلاّ إلى قومه بني إسماعيل دينه ، وهو مع ذلك يزعم أنّ الله عزّ وجلّ أرسله إلى الناس جميعاً.
قال حارثة : أفتعلم أنت يا أبا قرّة أن محمّداً مرسل من ربّه إلى قومه خاصّة ؟!
قال : أجل.
قال : أتشهد له بذلك ؟!
قال : ويحك ، وهل يستطاع دفع الشواهد ؟! نعم ، أشهد غير مرتاب بذلك ، وبذلك شهدت له الصحف الدارسة والأنباء الخالية.
فأطرق حارثة ضاحكاً ينكت الأرض بسبّابته.
قال السيّد : ما يضحكك يا ابن أثاك.
قال : عجبت فضحكت.
قال : أو عجب ما تسمع ؟!
قال : نعم ، العجب أجمع ، أليس ـ بالإله ـ بعجيب من رجل أوتي أثرةً من علم وحكمة يزعم أنّ الله عزّ وجلّ اصطفى لنبوّته ، واختصّ برسالته ، وأيّد بروحه وحكمته ، رجلا خرّاصاً يكذب عليه ويقول : أوحى إلىّ ولم يوح إليه ، فيخلط كالكاهن كذباً بصدق، وباطلاً بحقّ !
فارتدع السيّد وعلم أنّه قد وهل فأمسك محجوجاً.
قالوا : وكان حارثة بنجران حثيثاً ـ يعني غريباً ـ فأقبل عليه العاقب وقد قطعه مافرط إلى السيّد من قوله ، فقال له : عليك أخا بني قيس من ثعلبة ، واحبس عليك ذلق لسانك وما لم تزل تسحمّ لنا من مثابة سفهك ، فربّ كلمة ترفع صاحبها رأساً قد ألقته في قعر مظلمة ، وربّ كلمة لامت ورابت قلوباً نغلةً ، فدع عنك ما يسبق إلى القلوب إنكارهوإن كان عندك ما يتسان اعتذاره.
ثمّ قال : وذكرت أخا قريش وما جاء به من الآيات والنذر ، فأطلت وأعرضت ، ولقد بررت ، فنحن بمحمّد عالمون ، وبه جدّاً موقنون ، شهدت لقد انتظمت له الآيات والبيّنات ، سالفها وآنفها إلاّ آية هي أسعاها وأشرفها ، وإنّما مثلها في ما جاء به كمثل الرأس للجسد ، فما حال جسد لا رأس له ؟! فامهل رويداً نتجسّس الأخبار ونعتبر الآثار ،ولنستشف ما ألفينا ممّا أفضى إلينا ، فإن آنسنا الآية الجامعة الخاتمة لديه فنحن إليه أسرع وله أطوع ، وإلاّ فأعلم ما نذكر به النبوّة والسفارة عن الربّ الذي لا تفاوت في أمره ، ولا تغاير في حكمه.
قال له حارثة : قد ناديت فأسمعت ، وفزعت فصدعت ، وسمعت وأطعت ، فما هذه الآية التي أوحش بعد الأنسة فقدها ، وأعقب الشكّ بعد البينة عدمها ؟
وقال له العاقب : قد أثلجك أبو قرّة بها فذهبت عنها في غير مذهب ، وحاورتنا فأطلت في غير ما طائل حوارنا.
قال حارثة : وإلى ذلك فحلّها الآن لي فداك أبي وأمّي.
قال العاقب : أفلح من سلم للحقّ وصدع به ، ولم يرغب عنه وقد أحاط به علماً ، فقدعلمنا وعلمت من أنباء الكتب المستودعة علم القرون ، وما كان وما يكون ، فإنّها استهلّت بلسان كلّ أمّة منهم معربةً مبشرةً ومنذرةً بأحمد النبيّ العاقب ، الذي تطبق أمّته المشارق والمغارب.
قالوا : وكان هذا مجلساً ثالثاً في يوم ثالث من اجتماعهم للنظر في أمرهم ، فقال السيّد : يا حارثة ! الم ينّبئك أبو واثلة بأفصح لفظ اخترق أذناً ، ودعا ذلك بمثله مخبراً ; فألقاك مع غرمائك بموارده حجراً ، وها أنا ذا آكد عليك التذكرة بذلك من معدن ثالث.
فأنشدك الله وما أنزل إلى كلمته من كلماته ، هل تجد في الزاجرة المنقولة من لسان أهل سوريا إلى لسان العرب ـ يعني صحيفة شمعون بن حمون الصفا التي توارثها عنه أهل النجران ـ ؟
قال السيّد : ألم يقل بعد بند طويل من كلام : فإذا طبقت وقطعت الأرحام ، وعفت الأعلام ، بعث الله عبده الفارقليطا بالرحمة والمعدلة.
قالوا : وما الفارقليطا يا روح الله ؟
قال : أحمد النبيّ الخاتم الوارث ذلك الذي يصلّى عليه حيّاً ويصلّى عليه بعدما يقبضه إليه ، بابنه الطاهر الخاير ، ينشره الله في آخر الزمان بعدما انفصمت عرى الدين ، وخبت مصابيح الناموس ، فأفلت نجومه ، فلا يلبث ذلك العبد الصالح إلاّ أممّا حتّى يعود الدين به كما بدأ ، ويقرّ الله عزّ وجلّ سلطانه في عبده ثمّ في الصالحين من عقبه ، وينشر منه حتّى يبلغ ملكه منقطع التراب.
قال حارثة : كلّ ما قد أنشدتما حقّ ، لا وحشة مع الحقّ ، ولا أنس في غيره ، فمه ؟
قال السيّد : فإنّ من الحقّ أن لا حظّ في هذه الأكرومة للأبتر.
قال حارثة : إنّه لكذلك ، أليس بمحمّد ؟!
قال السيّد : إنّك ما عملت إلاّ لدّاً ، ألم يخبرنا سفرنا وأصحابنا في ما تجسّسنا من خبره أن ولديه الذكرين القرشيّة والقبطيّة بادا ـ يعني هلكا ـ وغودر محمّد كقرن الأعضب موف على ضريحه ، فلو كان له بقيّة لكان لك بذلك مقالاً إذا ولّت أبناؤه الذي يذكر.
قال حارثة : العبر ـ لعمرو الله ـ كثيرة والاعتبار بها قليل ، والدليل موف على سنن السبيل إن لم يعش عنه ناظر ، وكما أنّ أبصار الرمدة لا تستطيع النظر في قرص الشمس لسقمها ; فكذلك البصائر القصيرة لا تتعلّق بنور الحكمة لعجزها ، الا ومن كان كذلك فلستماه ـ وأشار إلى السيّد والعاقب ـ.
إنّكما ـ ويمين الله ـ لمحجوجين بما آتاكما الله عزّ وجلّ من ميراث الحكمة واستودعكما من بقايا الحجّة ، ثمّ بما أوجب لكما من الشرف والمنزلة في الناس ، فقد جعل الله عزّ وجلّ من آتاه سلطاناً ملوكاً للناس وأرباباً ، وجعلكما حكماً وقوّاماً على ملوك ملّتنا وذادة لهم ، يفزعون إليكما في دينهم ولا تفزعان إليهم ، وتأمرانهم فيأتمرون لكما وحقّ لكلّ ملك أو موطّأ الأكناف أن يتواضع لله عزّ وجلّ إذ رفعه ، وأن ينصح لله عزّ وجلّ في عباده ولا يدهن في أمره ، وذكرتما محمّداً بما حكمت له الشهادات الصادقة ، وبيّنته فيه الأسفار المستحفظة ، ورأيتماه مع ذلك مرسلاً إلى قومه لا إلى الناس جميعاً وأنّه ليس بالخاتم الحاشر ، ولا الوارث العاقب ، لأنّكما زعمتماه أبتر ، أليس كذلك ؟
قالا : نعم.
قال : أرأيتكما لو كان له بقيّة وعقب ، هل كنتما تمتريان لما تجدان وبما تكذّبان من الوراثة والظهور على النواميس أنّه النبيّ الخاتم والمرسل إلى كافّة البشر ؟
قالا : لا.
قال : أفليس هذا القيل ـ هذه الحال مع طول اللوائم والخصائم ـ عندكما مستقرّاً.
قالا : أجل.
قال : الله أكبر.
قالا : كبّرت كبيراً ، فما دعاك إلى ذلك.
قال حارثة : الحقّ أبلج ، والباطل لجلج ، ولنقل ماء البحر ولشقّ الصخر أهون من إماتة ما أحياه الله عزّ وجلّ وإحياء ما أماته ، الآن فاعلما أنّ محمّداً غير أبتر ، وأنّه الخاتم الوارث والعاقب الحاشر حقّاً فلا نبيّ بعده وعلى أمّته تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها وأنّ من ذرّيّته الأمير الصالح الذي بيّنتما ونبّأتما أنّه يملك مشارق الأرض ومغاربها ويظهره الله عزّ وجلّ بالحنفية الإبراهيمية على النواميس كلها.
قالا : أولى لك يا حارثة ، لقد أغفلناك وتأبى إلاّ مراوغةً كالثعالبة ، فما تسأم المنازعة ولا تملّ من المراجعة ، ولقد زعمت مع ذلك عظيماّ ، فما برهانك به ؟
قال : أمّا وجدّكما ـ لأنّبئكما ببرهان يجير من الشبهة ويشفي به جوى الصدور.
ثمّ أقبل على أبي حارثة حصين بن علقمة ، شيخهم وأسقفهم الأوّل فقال : إن رأيت أيّها الأب الأثير أن تؤنس قلوبنا وتثلج صدورنا بإحضار الجامعة والزاجرة.
قالوا : وكان هذا المجلس الرابع من اليوم الرابع ، وذلك لما خلقت الأرض وركدت ، وفي زمن قيظ شديد ، فأقبلا على حارثة فقالا : أرج هذا إلى غد فقد بلغت القلوب منّا الصدور. فتفرّقوا على إحضار الزاجرة والجامعة من غد للنظر فيهما والعمل بما يقرءان منهما.
فلمّا كان من الغد صار أهل نجران إلى بيعتهم لاعتبار ما أجمع صاحباهم مع حارثة على اقتباسه وتبيّنه من الجامعة ، ولمّا رأى السيّد والعاقب اجتماع الناس لذلك قطع بهما لعلمهما بصواب قول حارثة ، واعترضاه ليصدّانه عن تصفّح الصحف على أعين الناس ، وكانا من شياطين الإنس ، فقال السيّد : إنّك قد أكثرت وأمللت قضّ الحديث لنا مع قضّه ودعنا من تبيانه.
فقال حارثة : وهل هذا إلاّ منك وصاحبك ! فمن الآن فقولا ما شئتما ، فقال العاقب : ما من مقال إلاّ قلناه ، وسنعود فنخبّر بعض ذلك لك تخبيراً غير كاتمين لله عزّ وجلّ من حجّة ، ولا جاحدين له آية ، ولا مفترين مع ذلك على الله عزّ وجلّ لعبد أنّه مرسل منه وليس برسوله ، فنحن نعترف ـ يا هذا ـ بمحمّد صلّى الله عليه وآله أنّه رسول من الله عزّ وجلّ إلى قومه من بني إسماعيل عليه السلام في غير أن يجب له بذلك على غيرهم من عرب الناس ولاأعاجمهم ، تباعةً ولا طاعةً ، بخروج له عن ملّة ، ولا دخول معه في ملّة ، إلاّ الإقرار له بالنبوّة والرسالة إلى أعيان قومه ودينه.
قال حارثة : وبم شهدتما بما شهدتما له بالنبوّة والأمر ؟
قالا : حيث جاءتنا فيه البيّنة من تباشير الأناجيل والكتب الخالية.
فقال : منذ وجب هذا لمحمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ عليكما في طويل الكلام وقصيره ،وبدئه وعوده ، فمن أين زعمتما أنّه ليس بالوارث الحاشر ، ولا المرسل إلى كافّة البشر ؟
قالا : لقد علمت وعلمنا ، فما نمتري بأنّ حجّة الله عزّ وجلّ لم ينته أمرها ، وأنّها كلمة الله جارية في الأعقاب ما اعتقب الليل والنهار ، وما بقي من الناس شخصان ، وقد ظننّا من قبل أنّ محمّداً ربّها ، وأنّه القائد بزمامها ، فلما أعقمه الله عزّ وجلّ بمهلك الذكورة من ولده علمنا أنّه ليس به ، لأنّ محمّداً أبتر ، وحجّة الله عزّ وجلّ الباقية ، ونبيّه الخاتم بشهادة كتب الله عزّ وجلّ المنزلة ليس بأبتر ، فإذن هو نبيّ يأتي ويخلد بعد محمّد ، اشتقّ اسمه من اسم محمّد وهو أحمد الذي نبّأ المسيح باسمه وبنبوّته ورسالته الخاتمة ، ويملك ابنه القاهر الجامعة للناس جميعاً على ناموس الله عزّ وجلّ الأعظم ، ليس بمظهرة دينه ، ولكنّه من ذرّيّته وعقبه ، يملك قرى الأرض وما بينهما ، من لوب وسهل وصخر وبحر ، ملكاً مورّثاً موطّأً ، وهذا نبّأ أحاطت سفرة الأناجيل به علماً ، وقد أوسعناك بهذا القيل سمعاً وعدنا لك به آنفةً بعد سالفة ، فما أربك إلى تكراره ؟!
قال حارثة : قد أعلم أنا وإيّاكما في رجع من القول منذ ثلاث وما ذاك إلاّ ليذكر ناس، ويرجع فارط ، وتظهر لنا الكلم ، وذكرتما نبيين يبعثان يعتقبان بين مسيح الله عزّ وجلّ والساعة ، قلتما وكلاهما من بني إسماعيل ، أوّلهم : محمّد بيثرب ، وثانيهما : أحمد العاقب.
فتنادى الناس في كلّ ناحية وقالوا : الجامعة يا أبا حارثة الجامعة !
وذلك لما مسّهم في طول تحاور الثلاثة من السامة والملل ، وظنّ القوم مع ذلك أن الفلج لصاحبهما بما كانا يدّعيان في تلك المجالس من ذلك.
فأقبل أبو حارثة إلى علج واقف منه فقال : امض يا غلام فأت بها.
فجاء بالجامعة يحملها على رأسه وهو لا يكاد يتماسك بها لثقلها ، قال : فحدّثني رجل صدق من النجرانيّة ممّن كان يلزم السيّد والعاقب ويخفّ لهما في بعض أمورهما ويطّلع على كثير من شأنهما ، قال : لمّا حضرت الجامعة بلغ ذلك من السيّد والعاقب كلّ مبلغ ، لعلمهما بما يهجمان عليه في تصفّحهما من دلائل رسول الله صلّى الله عليه وآله وصفته ، وذكر أهل بيته وأزواجه وذرّيّته ، وما يحدّث في أمّته وأصحابه من بوائق الأمور من بعده إلى فناء الدنيا وانقطاعها.
فأقبل أحدهما على صاحبه ، فقال : هذا يوم ما بورك لنا في طلوع شمسه ، لقد شهدته أجسامنا وغابت عنه آراؤنا بحضور طغاتنا وسفلتنا ولقلّ ما شهد سفهاء قوم مجمعةً إلاّ كانت لهم الغلبة.
قال الآخر : فهم شرّ غالب لمن غلب ، إنّ أحدهم ليفيق بأدنى كلمة ويفسد في بعض ساعة ما لا يستطيع الآسي الحليم له رتقاً ، ولا الخولّي النفيس إصلاحاً له في حول محرم ، ذلك لأنّ السفيه هادم والحليم بان ، وشتّان البناء والهدم.
قال : فانتهز حارثة الفرصة فأرسل في خفية وسرّ إلى النفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله فاستحضرهم استظهاراً بمشهدهم ، فحضروا ، فلم يستطع الرجلان فضّ ذلك المجلس ولا إرجاؤه ، وذلك لما بينا من تطّلع عامّتهما من نصارى نجران إلى معرفة ما تضمّنت الجامعة من صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وانبعاثهم له مع حضور رسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لذلك وتأليب حارثة عليهما فيه وصفو أبي حارثة شيخهم إليه.
قال : قال لي ذلك الرجل النجراني : فكان الرأي عندهما أن ينقادا لما يدهمهما من هذا الخطب ، ولا يظهران شماساً منه ولا نفوراً ، حذار أن يطرقا الظنّة فيه إليهما ، وأن يكونا أيضاً أوّل معتبر للجامعة ومستحثّ لها ، لئلاّ يفتات في شيء من ذلك والمقام والمنزلة عليهما ، ثمّ يستبين أن الصواب في الحال ويستنجدانه لياخذان بموجبه ، فتقدّما لما تقدّم في أنفسهما من ذلك إلى الجامعة وهي بين يدي أبي حارثة ، وحاذاهما حارثة بن أثاك وتطاولت إليهما فيه الأعناق وحفّت رسل رسول الله صلّى الله عليه وآله بهم.
فأمر أبو حارثة بالجامعة ، ففتح طرفها واستخرج منها صحيفة آدم الكبرى ، المستودعة علم ملكوت الله عزّ وجلّ جلاله وما ذرأ وما برأ في أرضه وسمائه وما وصلهما جلّ جلاله من ذكر عالميه ، وهي الصحيفة التي ورثها شيث من أبيه آدم عليه السلام وما وعاه من الذكر المحفوظ ، فقرأ القوم السيّد والعاقب وحارثة في الصحيفة تطلّباً لما تنازعوا فيه من نعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وصفته ، ومن حضرهم يومئذ من الناس إليهم مصبحون مرتقبون لما يستدرك من ذكرى ذلك ، فألفوا في المسباح الثاني من فواصلها :
بسم الله الرحمن الرحيم ، أنا الله لا إله إلاّ أنا الحيّ القيوم ، معقّب الدهور وفاصل الأمور ، سبقت بمشيّتي الأسباب ، وذلّلت بقدرتي الصعاب ، فأنا العزيز الحكيم ، الرحمن الرحيم ، ارحم تُرحم ، سبقت رحمتي غضبي ، وعفوي عقوبتي ، خلقت عبادي لعبادتي ، وألزمتهم حجّتي ، ألا إنّي باعث فيهم رسلي ومنزل عليهم كتبي ، أبرم ذلك من لدن أول مذكور من بشر إلى أحمد نبيّي وخاتم رسلي ، ذلك الذي أجعل عليه صلواتيوأسلك في قلبه بركاتي ، وبه أكمل أنبيائي ونذري.
قال آدم عليه السلام : إلهي ! من هؤلاء الرسل ؟ ومن أحمد هذا الذي رفعت وشرّفت ؟
قال : كلّ من ذرّيّتك وأحمد عاقبهم.
قال : ربّ ! بما أنت باعثهم ومرسلهم ؟
قال : بتوحيدي ، ثمّ أقفّي ذلك بثلاثمائة وثلاثين شريعة أنظمها وأكملها لأحمد جميعاً ، فأذنت لمن جاءني بشريعة منها مع الإيمان بي وبرسلي أن أدخله الجنّة.
ثمّ ذكر ما جملته : أنّ الله تعالى عرض على آدم عليه السلام معرفة الأنبياء عليهم السلام وذرّيّتهم ، ونظر بهم آدم عليه السلام.
ثمّ قال ما هذا لفظه : ثمّ نظر آدم عليه السلام إلى نور قد لمع فسدّ الجوّ المنخرق فأخذ بالمطالع من المشارق ، ثمّ سرى كذلك حتّى طبّق المغارب ، ثمّ سما حتّى بلغ ملكوت السماء فنظر فإذا هو نور محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وإذا الأكناف به قد تضوّعت طيباً ، وإذا أنوار أربعة قد اكتنفته عن يمينه وشماله ومن خلفه وأمامه ، أشبه شي به أرجاً ونوراً ويتلوها أنوار من بعدها تستمدّ منها ، وإذا هي شبيه بها في ضيائها وعظمها ونشرها ، ثمّ دنت منها فتكلّلت عليها وحفت بها ، ونظر فإذا أنوار من بعد ذلك في مثل عدد الكواكب ودون منازل الاوائل جدّاً جدّاً ، وبعض هذه أضوء من بعض وهي في ذلك متفاوتون جدّاً.
ثمّ طلع عليه سواد كالليل وكالسيل ينسلون من كلّ وجهة وأوب فأقبلوا كذلك حتّى ملؤوا القاع والأكم فإذا هم أقبح شيء صوراً وهيئةً ، وأنتنه ريحاً.
فبهر آدم عليه السلام ما رأى من ذلك ، وقال : يا عالم الغيوب وغافر الذنوب ، ويا ذا القدرة الباهرة والمشيئة الغالبة ، من هذا الخلق السعيد الذي كرمت ورفعت على العالمين ؟ ومن هذه الأنوار المنيفة المكتنفة له ؟
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه :
يا آدم هذا وهؤلاء وسيلتك ووسيلة من أسعدت من خلقي ، هؤلاء السابقون المقرّبون ، والشافعون المشفعون ، وهذا أحمد سيّدهم وسيّد بريتي ، اخترته بعلمي واشتققت اسمه من اسمي ، فأنا المحمود وهو محمّد ، وهذا صنوه ووصيّه ، آزرته به ، وجعلت بركاتي وتطهيري في عقبه ، وهذه سيدة إمائي والبقيّة في علمي من أحمد نبيّي ، وهذان السبطان والخلفان لهم ، وهذه الأعيان المضارع نورها أنوارهم ، بقيّة منهم ، ألا إن كلاًّ اصطفيت وطهّرت ، وعلى كلّ باركت وترحمت ، فكلاًّ بعلمي جعلت قدوة عبادي ونور بلادي.
ونظر فإذا شيخ في آخرهم يزهر في ذلك الصفيح كما يزهر كوكب الصبح لأهل الدنيا ، فقال الله تبارك وتعالى : وبعبدي هذا السعيد أفك عن عبادي الأغلال وأضع عنهم الآصار ، أملأ أرضي به حناناً ورأفةً وعدلا كما ملئت من قبله قسوةً وقشعريةً وجوراً.
قال آدم عليه السلام : ربّ إنّ الكريم من كرّمت ، وإنّ الشريف من شرّفت ، وحقّ يا إلهي لمن رفعت وأعليت أن يكون كذلك.
فياذا النعم التي لا تنقطع ، والإحسان الذي لا يجازى ولا ينفذ ، بم بلغ عبادك هؤلاء العالون هذه المنزلة من شرف عطائك وعظيم فضلك واحبائك وكذلك من كرمت من عبادك المرسلين ؟
قال الله تبارك وتعالى : إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا الرحمن الرحيم ، العزيز الحكيم ، عالم الغيوب ومضمرات القلوب ، أعلم ما لم يكن ممّا يكون كيف يكون ، وما لا يكون ، وكيف لو كان يكون ، وإنّي اطّلعت يا عبدي في علمي على قلوب عبادي ، فلم أرَ فيهم أطوع لي ولا أنصح لخلقي من أنبيائي ورسلي ، فجعلت لذلك فيهم روحي وكلمتي ،وألزمتهم عب حجّتي ، واصطفيتهم على البرايا برسالتي ووحيي ، ثمّ ألقيت بمكاناتهم تلك في منازلهم حوامّهم وأوصيائهم من بعدهم ، ودائع حجّتي والسادة في بريّتي ، لأجبر بهم كسر عبادي ، وأقيم بهم أودهم ، ذلك أنّي بهم وبقلوبهم لطيف خبير.
ثمّ اطّلعت على قلوب المصطفين من رسلي فلم أجد فيهم أطوع ولا أنصح لخلقي من محمّد خيرتي وخالصتي ، فاخترته على علم ورفعت ذكره إلى ذكرى ، ثم وجدت قلوب حامته اللاتي من بعده على صبغة قلبه ، فألحقتهم به وجعلتهم ورثة كتابي ووحيي وأوكار حكمتي ونوري ، وآليت بي ألا أعذّب بناري من لقيني معتصماً بتوحيدي وحبل مودّتهم أبداً.
ثمّ أمرهم أبو حارثة أن يصيروا إلى صحيفة شيث الكبرى التي انتهى ميراثها إلى إدريس النبيّ عليه السلام ، قال : وكان كتابتها بالقلم السرياني القديم ، وهو الذي كتب به من بعد نوح عليه السلام من ملوك الهياطلة ، وهم النماردة ، قال : فاقتص القوم الصحيفة وأفضوا منها إلى هذا الرسم ، قال :
اجتمع إلى إدريس عليه السلام قومه وصحابته ـ وهو يومئذ في بيت عبادته من أرض كوفانـ فخبّرهم فيما اقتص عليهم ، قال : إن بني أبيكم آدم عليه السلام الصلبيّة وبني بنيه وذرّيّته اختصموا فيما بينهم ، وقالوا : أيّ الخلق عندكم أكرم على الله عزّ وجلّ وأرفع لديه مكانةً وأقرب منه منزلةً ؟
فقال بعضهم : أبوكم آدم عليه السلام ، خلقه الله عزّ وجلّ بيده ، وأسجد له ملائكته ، وجعله الخليفة في أرضه ، وسخّر له جميع خلقه.
وقال آخرون : بل الملائكة الّذين لم يعصوا الله عزّ وجلّ.
وقال بعضهم : لا ، بل رؤساء الملائكة الثلاثة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام.
وقال بعضهم : لا ، بل أمين الله جبرئيل عليه السلام.
فانطلقوا إلى آدم فذكروا الذي قالوا واختلفوا فيه ، فقال : يا بني أنا أخبركم بأكرم الخلائق جميعاً على الله عزّ وجلّ.
إنّه والله لمّا أن نفخ في الروح حتّى استويت جالساً ، فبرق لي العرش العظيم فنظرت فيه، فإذا فيه : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله قال آدم عليه السلام فلان أمين الله فلان خيرة الله عزّ وجلّ ـ فذكر عدّة أسماء مقرونة بمحمّد صلّى الله عليه وآله ـ ثمّ لم أرَ في السماء موضع أديم ـ أو قال : صفيح ـ منها إلاّ وفيه مكتوب : لا إله إلاّ الله ، وما من موضع فيه مكتوب لاإله إلاّ الله وفيه مكتوب ، خلقاً لا خطّاً : محمّد رسول الله ، وما من موضع مكتوب فيه محمّد رسول الله ، إلاّ ومكتوب : فلان خيرة الله ، فلان صفوة الله ،فلان أمين الله عزّ وجلّ فذكر عدّة أسماء تنتظم حساب المعدود ـ .
قال آدم عليه السلام : فمحمد صلّى الله عليه وآله ـ يا بني ـ ومن خطّ من تلك الأسماء معه أكرم الخلائق على الله جميعاً.
ثمّ ذكر أنّ أبا حارثة سأل السيّد والعاقب أن يقفا على صلوات إبراهيم عليه السلام الذي جاء بها الأملاك من عند الله عزّ وجلّ ، فقنعوا بما وقفوا عليه في الجامعة ، قال أبو حارثة : لا ، بل شارفوها بأجمعها واسبروها ، فإنّه أصرم للغدور ، وأرفع لحكة الصدور ، وأجدر ألا ترتابوا في الأمر من بعد.
فلم يجد من المصير إلى قوله من بدّ ، فعمد القوم إلى تابوت إبراهيم عليه السلام ،قال : وفيه : وكان الله عزّ وجلّ بفضله على من يشاء من خلقه ـ قد اصطفى إبراهيم عليه بخلّته ، وشرّفه بصلواته وبركاته وجعله قبلةً وإماماً لمن يأتي من بعده ، وجعل النبوّة والكتاب والإمامة في ذرّيّته ، يتلقّاها آخر عن أول ، وورّثه تابوت آدم عليه السلام المتضمّن للحكمة والعلم الذي فضّله الله عزّ وجلّ به على الملائكة طرّاً.
فنظر إبراهيم عليه السلام في ذلك التابوت ، فأبصر فيه بيوتاً بعدد ذوي العزم من الأنبياء المرسلين وأوصيائهم من بعدهم ، ونظرهم فإذا بيت محمّد صلّى الله عليه وآله آخر الأنبياء ، عن يمينه علىّ بن أبي طالب آخذٌ بحجزته ، فإذا شكل عظيم يتلألأ نوراً فيه هذا صنوه ووصيه المؤيّد بالنصر.
فقال إبراهيم عليه السلام : إلهي وسيدي ! من هذا الخلق الشريف ؟
فأوحى الله عزّ وجلّ : هذا عبدي وصفوتي ، الفاتح الخاتم ، وهذا وصيه الوارث.
قال : ربّ ما الفاتح الخاتم ؟
قال : هذا محمّد خيرتي ، وبكر فطرتي ، وحجّتي الكبرى في بريّتي ، نبّأته واجتبيته إذ آدم بين الطين والجسد ، ثمّ إنّي باعثه عند انقطاع الزمان لتكملة ديني ، وخاتم به رسالتي ونذري ، وهذا عليّ أخوه وصديقه الأكبر ، آخيت بينهما واخترتهما وصليت وباركت عليهما ، وطهّرتهما وأخلصتهما، والأبرار منهما وذرّيّتهما قبل أن أخلق سمائي وأرضي وما فيهما من خلقي ، وذلك لعلمي بهم وبقلوبهم ، إنّي بعبادي عليم خبير.
قال : ونظر إبراهيم عليه السلام فإذا اثنا عشر عظيماً تكاد تلألأ أشكالهم لحسنها نوراً ، فسأل ربّه جلّ وتعالى وقال : ربّ نبّئني بأسماء هذه الصور المقرونة بصورة محمّد ووصيّه ; وذلك لما رأى من رفيع درجاتهم والتحاقهم بشكلي محمّد ووصيّه عليهم السلام ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه :
هذه أمتي والبقيّة من نبيّي ، فاطمة الصدّيقة الزهراء ، وجعلتها مع خليلها عصبةً لذرّيّة نبيّي هؤلاء ، وهذا الحسنان ، وهذا فلان ، وهذا فلان ، وهذا كلمتي التي أنشر به رحمتي في بلادي ، وبه أنتاش ديني وعبادي ذلك بعد إياس منهم وقنوط منهم من غياثي ، فإذا ذكرت محمّداً نبيّي لصلواتك فصلّ عليهم معه يا إبراهيم.
قال : فعندها صلّى عليهم إبراهيم صلّى الله عليه وآله ، فقال ربّ صلّ على محمّد وآله محمّد كما اجتبيتهم وأخلصتهم إخلاصاً.
فأوحى الله عزّ وجلّ : لتهنك كرامتي وفضلي عليك ، فإنّي صائر بسلالة محمّد صلّى الله عليه وآله ومن اصطفيت معه منهم إلى قناة صلبك ومخرجهم منك ثمّ من بكرك إسماعيل ، فابشر يا إبراهيم فإنّي واصلٌ صلاتك بصلاتهم ومتبع ذلك بركاتي وترحّمي عليك وعليهم ، وجاعل حناني وحجتي إلى الأمد المعدود واليوم الموعود ، الذي أرث فيه سمائي وأرضي وأبعث له خلقي لفصل قضائي وإفاضة رحمتي وعدلي.
قال : فلمّا سمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله ما أفضى إليه القوم من تلاوة ما تضمّنت الجامعة والصحف الدارسة من نعت رسول الله صلّى الله عليه وصفة أهل بيته المذكورين معه بما هم به منه ، وبما شاهدوا من مكانتهم عنده ، ازداد القوم بذلك يقيناً وإيماناً واستطيروا له فرحاً.
قال : ثمّ صار القوم إلى ما نزل على موسى عليه السلام فألفوا في السفر الثاني من التوراة : إنّي باعث في الأميّين من ولد إسماعيل رسولاً ، أنزل عليه كتابي وأبعثه بالشريعة القيمة إلى جميع خلقي ، آتيته حكمتي وأيدته بملائكتي وجنودي ، يكون ذرّيّته من ابنة له مباركة ، باركتها ، ثمّ من شبلين لهما كإسماعيل وأسحاق ، أصلين لشعبتين عظيمتين ، أكثرهم جدّاً جدّاً ، يكون منهم اثنا عشر قيّماً أُكمل بمحمّد صلّى الله عليه وآله وبما أرسله به من بلاغ وحكمة ديني ، وأختم به أنبيائي ورسلي ، فعلى محمّد صلّى الله عليه وآله وأمّته تقوم الساعة.
فقال حارثة : الآن أسفر الصبح لذي عينين ، ووضح الحقّ لمن رضي به ديناً ، فهل في أنفسكم من مرض تستشفيان به ؟!
فلم يرجعا إليه قولاً ، فقال أبو حارثة : اعتبروا الإمارة الخاتمة من قول سيّدكم المسيح عليه السلام.
فصار إلى الكتب والأناجيل التي جاء بها عيسى عليه السلام فألفوا في المفتاح الرابع من الوحي إلى المسيح عليه السلام :
يا عيسى يا بن الطاهرة البتول ، اسمع قولي وجدّ في أمري ، أنّي خلقتك من غير فحل ، وجعلتك آيةً للعالمين ، فإيّاي فاعبد وعلىّ فتوكلّ ، وخذ الكتاب بقوة ثمّ فسّره لأهل سوريا ، واخبرهم أنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا الحي القيوم ، الذي لا أحول ولا أزول ، فآمنوا بي وبرسولي النبيّ الأمّيّ الذي يكون في آخر الزمان ، نبيّ الرحمة والملحمة ، الأوّل والآخر.
قال : أوّل النبيّين خلقاً وآخرهم مبعثاً ، ذلك العاقب الحاشر ، فبشّر به بني إسرائيل.
قال عيسى عليه السلام : يا مالك الدهور وعلاّم الغيوب ، من هذا العبد الصالح الذي قد أحبّه قلبي ولم تره عيني ؟
قال : ذلك خالصتي ورسولي ، المجاهد بيده في سبيلي ، ويوافق قوله فعله وسريرته علانيته ، أنزل عليه توراةً حديثةً أفتح بها أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً ، فيها ينابيع العلم وفهم الحكمة وربيع القلوب ، وطوباه طوبى أمّته.
قال : ربّ ما اسمه وعلامته ؟ وما أكلّ أمّته ـ يقول ملك أمّته ـ ؟ وهل له من بقية ـ يعني ذرّيّة ـ ؟
قال : سأنّبئك بما سألت ، اسمه أحمد صلّى الله عليه وآله ، منتخب من ذرّيّة إبراهيم ،ومصطفى من سلالة إسماعيل عليه السلام ، ذو الوجه الأقمر ، والجبين الأزهر ، راكب الجمل ، تنام عيناه ولا ينام قلبه ، يبعثه الله في أمّة أميّة ما بقي الليل والنهار ، مولده في بلد أبيه إسماعيل ، ـ يعني مكة ـ ، كثير الأزواج قليل الأولاد ، نسله من مباركة صدّيقة ، يكون له منها ابنة لها فرخان سيّدان يستشهدان ، اجعل نسل أحمد منهما ، فطوباهما ولمن أحبهما وشهد أيّامهما فنصرهما.
قال عيسى عليه السلام : إلهي ! وما طوبى ؟
قال : شجرة في الجنّة ساقها وأغصانها من ذهب، وورقها حلل ، وحملها كثدي الأبكار ،أحلى من العسل وألين من الزبد ، وماؤها من تسنيم ، لو أن غراباً طار وهو فرخ لأدركه الهرم من قبل أن يقطعها ، وليس منزل من منازل أهل الجنّة إلاّ وظلاله فنن من تلك الشجرة.
قال : فلمّا أتى القوم على دراسة ما أوحى الله عزّ وجلّ إلى المسيح عليه السلام من نعت محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وصفته ، وملك أمّته ، وذكر ذرّيّته وأهل بيته ، أمسك الرجلان مخصومين ، وانقطع التحاور بينهم في ذلك.
قال : فلما فلج حارثة على السيّد والعاقب بالجامعة وما تبيّنوه في الصحف القديمة ولم يتمّ لهما ما قدّروا من تحريفها ، ولم يمكنهما أن يلبسا على الناس في تأويلهما ، أمسكا عن المنازعة من هذا الوجه ، وعلماً أنهما قد أخطآ سبيل الصواب ، فصارا إلى بيعتهم آسفين لينظرا ويرتئيا ، وفزع إليهما نصارى نجران ، فسألوهما عن رأيهما وما يعملان في دينهما ، فقالا ما معناه : تمسّكوا بدينكم حتّى يكشف دين محمّد ، وسنسير إلى بني قريش إلى يثرب ، وننظر إلى ما جاء به وإلى ما يدعو إليه.
قال : فلمّا تجهّز السيّد والعاقب للسير الى رسول الله بالمدينة ، انتدب معهما أربعة عشر راكباً من نصارى نجران ، هم من أكابرهم فضلا وعلماً في أنفسهم ، وسبعون رجلا من أشراف بني الحرث بن كعب وسادتهم.
قال : وكان قيس بن الحصين ذو العصّة ويزيد بن عبد المدان ببلاد حضرموت ، فقدمانجران على بقيّة مسير قومهم فشخصا معهم فاغترز القوم في ظهور مطاياهم وجنبوا خيلهم وأقبلوا لوجوههم حتّى وردوا المدينة.
قال : ولما استراث رسول الله صلّى الله عليه وآله خبر أصحابه أنفذ إليهم خالد بن الوليد في خيل سرجها معه لمشارفة أمرهم ، فألفوهم وهم عامدون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله.
قال : ولمّا دنوا إلى المدينة أحبّ السيّد والعاقب أن يباهيا المسلمين وأهل المدينة بأصحابهما وبمن حفّ من بني الحرث معهما ، فاعترضاهم فقالا : لو كففتم صدور ركابكم ومسستم الأرض فألقيتم عنكم تفثكم وثياب سفركم وشننتم عليكم من باقي مياهكم كان ذلك أمثل ، فانحدر القوم عن الركاب افأماطوا من شعثهم وألقوا عنهم ثياب بذلتهم ولبسوا ثياب صونهم من الأنجميّات والحرير والحبر وذرّوا المسك في لممهم ومفارقتهم ، ثمّ ركبوا الخيل ، واعترضوا بالرماح على مناسج خيلهم ، وأقلبوا يسيرون رزدقاً واحداً ، وكانوا من أجمل العرب صوراً وأتمّهم أجساماً وخلقاً ، فلمّا تشرّفهم الناس أقبلوا نحوهم وقالوا : ما رأينا وفدا أجمل من هؤلاء.
فأقبل القوم حتّى دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله في مسجده ، وحانت صلاتهم فقاموا يصلّون إلى المشرق ، فأراد الناس أن ينهوهم عن ذلك فكفّهم رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ثمّ أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً ، فلم يدعهم ولم يسألوه لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه ممّا يجدون من صفته.
فلمّا كان بعد ثلاثة دعاهم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الإسلام.
فقالوا : يا أبا القاسم ! ما أخبرتنا كتب الله عزّ وجلّ بشيء من صفة النبيّ المبعوث بعد الروح عيسى عليه السلام إلاّ وقد تعرّفناه فيك ، إلاّ خلّةً هي أعظم الخلال آيةً ومنزلةً ، وأجلاها أمارةً ودلالةً.
قال : صلّى الله عليه وآله : وما هي ؟
قالوا : إنّا نجد في الإنجيل من صفة النبيّ الغابر من بعد المسيح أنّه يصدّق به ويؤمن به ، وأنت تسبه وتكذّب به وتزعم أنّه عبد.
قال : فلم تكن خصومتهم ولا منازعتهم للنبيّ صلوات الله عليه وآله إلاّ في عيسى عليه السلام.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله : لا بل أصدّقه وأصدّق به وأؤمن به وأشهد أنّه النبيّ المرسل من ربه عزّ وجلّ ، وأقول : إنّه عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
قالوا : وهل يستطيع العبد أن يفعل ما كان يفعل ؟ وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة ؟! ألم يكن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وينبّئهم بما يكنّون في صدورهم وما يدّخرون في بيوتهم ؟ فهل يستطيع هذا إلاّ الله عزّ وجلّ أو ابن الله ؟! وقالوا في الغلّو فيه وأكثروا ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
فقال صلّى الله عليه وآله : قد كان عيسى ـ أخي ـ كما قلتم يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخبر قومه بما في نفوسهم ، وبما يدخرون في بيوتهم ، وكلّ ذلك بإذن الله عزّ وجلّ ، وهو لله عزّ وجلّ عبد ، وذلك عليه غير عار ، وهو منه غير مستنكف ، فقد كان لحماً ودماً وشعراً وعظماً وعصباً وأمشاجاً ، يأكل الطعام ويظمأ وينصّب بأدبه ، وربّه الأحد الحقّ الذي ليس كمثله شيء وليس له ند.
قالوا : فأرنا مثله من جاء من غير فحل ولا أب؟!
قال : هذا آدم عليه السلام أعجب منه خلقا ، جاء من غير أب ولا أمّ، وليس شيء من الخلق بأهون على الله عزّ وجلّ في قدرته من شيء ولا أصعب ، إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، وتلا عليهم ( إنّ مثل عيسى عند اللهكمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون ).
قالا : فما نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تبايناً ، وهذا الأمر الذي لا نقرّ لك، فهلمّ فلنلاعنك أينا أولى بالحقّ ، فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، فإنّها مثلة وآية معجّلة.
فأنزل الله عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول الله صلّى الله عليه وآله ( فمن حاجّك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءناونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) فتلا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله ما نزّل عليه في ذلك من القرآن ، فقال صلّى الله عليه وآله : إن الله قد أمرني ]أن[ أصير الى ملتمسكم ، وأمرني بمباهلتكم إن أقمتم وأصررتهم على قولكم.
قالا : وذلك آية ما بيننا وبينك ، إذا كان غداً باهلناك.
ثمّ قاما وأصحابهما من النصارى معهما ، فلمّا أبعدا ـ وقد كانوا أنزلوا بالحرّة ـ أقبل بعضهم على بعض فقالوا : قد جاءكم هذا بالفصل من أمره وأمركم ، فانظروا أوّلا بمن يباهلكم ، أبكافة أتباعه ، أم بأهل الكتاب من أصحابه ، أو بذوي التخشّع والتمسكن والصفوة ديناً وهم القليل منهم عددا ؟ فإن جاءكم بالكثرة وذوي الشدّة منهم ، فإنّما جاءكم مباهياً كما يصنع الملوك ، فالفلج إذن لكم دونه ، وإن أتاكم بنفر قليل ذوي تخشّع فهؤلاء سجية الأنبياء وصفوتهم وموضع بهلتهم ، فإيّاكم والإقدام إذن على مباهلتهم ، فهذه لكم أمارةً ، وانظروا حينئذ ما تصنعون ما بينكم وبينه ، فقد أعذر من أنذر.
فأمر صلّى الله عليه وآله بشجرتين فقصدتا وكسح ما بينهما ، وأمهل حتّى إذا كان من الغد أمر بكساء أسود رقيق فنشر على الشجرتين ، فلمّا أبصر السيّد والعاقب ذلك خرجابولديهما صبغة المحسن وعبدالمنعم وسارة ومريم ، وخرج معهما نصارى نجران ، وركب فرسان بني الحرث بن الكعب في أحسن هيئة ، وأقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعارهم من راياتهم وألويتهم وأحسن شارتهم وهيئتهم ، لينظروا ما يكون من الأمر ، ولبث رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجرته حتّى متع النهار.
ثمّ خرج آخذاً بيد عليّ والحسن والحسين أمامه وفاطمة عليها السلام من خلفهم ، فأقبل بهم حتّى أتى الشجرتين ، فوقف من بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته ، فأرسل إليهما يدعوهما إلى ما دعاه إليه من المباهلة.
فأقبلا إليه فقالا : بمن تباهلنا يا أبا القاسم ؟
قال : بخير أهل الأرض وأكرمهم على الله عزّ وجلّ ، وأشار لهما إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم.
قالا : فما نراك جئت لمباهلتنا بالكبر ولا من الكثر ولا أهل الشارة ممّن نرى آمن بك واتّبعك ! وما نرى ها هنامعك إلاّ هذا الشابّ والمرأة والصبّيين ! أفبهؤلاء تباهلنا ؟!
قال صلّى الله عليه وآله : نعم ، أو لم أخبركم بذلك آنفاً ، نعم بهؤلاء أمرت والذي بعثني بالحقّ أن أباهلكم.
فاصفارت حينئذ ألوانهما وحوكرا ، وعادا إلى أصحابهما وموقفهما ، فلما رأى أصحابهماما بهما وما دخلهما ، قالوا : ما خطبكما ؟! فتماسكا وقالا : ما كان ثمة من خطب فنخبركم.
وأقبل عليهم شابّ كان من خيارهم قد أوتي فيهم علماً ، فقال ويحكم ! لا تفعلوا ، واذكروا ما عثرتم عليه في الجامعة من صفاته ، فوالله إنّكم لتعلمون حقّ العلم إنّه لصادق ، وإنّما عهدكم بإخوانكم حديث قد مسخوا قردةً وخنازير.
فعلموا أنّه قد نصح لهم فأمسكوا.
قال : وكان للمنذر بن علقمة أخي أسقفهم أبي حارثة حظّ من العلم فيهم يعرفونه له ، وكان نازحاً عن نجران في وقت تنازعهم ، فقدم وقد اجتمع القوم على الرحلة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فشخص معهم ، ، فلمّا رأى المنذر انتشار أمر القوم يومئذ وتردّدهم في رأيهم ، أخذ بيد السيّد والعاقب على أصحابه ، فقال : أخلوني وهذين ، فاعتزل بهما ، ثمّ أقبل عليهما فقال : إنّ الرائد لا يكذب أهله ، وأنا لكما حدّ شفيق ، فإنّ نظرتما لأنفسكما نجيتما ، وإن تركتما ذلك هلكتما وأهلكتما.
قالا : أنت الناصح حبيباً ، المأمون عيباً ، فهات.
قال : أتعلمان أنّه ما باهل قوم نبيّاً قط إلاّ كان مهلكهم كلمح البصر ، وقد علمتما وكلّ ذي إرب من ورثة الكتب معكما أنّ محمّداً أبا القاسم هذا هو الرسول الذي بشّرت به الأنبياء عليهم السلام وأفصحت ببيعتهم وأهل بيته الأمناء.
وأخرى أنذركما بها فلا تعشوا عنها !
قالا : وما هي يا أبا المثنّى ؟
قال : انظرا إلى النجم قد استطلع إلى الأرض ، وإلى خشوع الشجر وتساقط الطيربإزائكما لوجوههما ، قد نشرت على الأرض أجنحتها ، وفات ما في حواصلها ، وما عليها لله عزّ وجلّ من تبعة ، ليس ذلك إلاّ ما قد أظلّ من العذاب.
وانظرا إلى اقشعرار الجبال ، وإلى الدخان المنتشر وقزع السحاب !
هذا ، ونحن في حمارة القيظ وإبّان الهجير.
وانظروا إلى محمّد صلّى الله عليه وآله رافعاً يده والأربعة من أهله معه إنّما ينتظرما تجيبان به. ثمّ اعلموا أنّه إن نطق فوه بكلمة من بهلة لم نتدارك هلاكاً ، ولم نرجع إلى أهل ولا مال.
فنظرا فأبصرا أمراً عظيماً فأيقنا أنّه الحقّ من الله تعالى فزلزلت أقدامهما ، وكادت أن تطيش عقولهما ، واستشعرا أن العذاب واقع بهما.
فلمّا أبصر المنذر بن علقمة ما قد لقيا من الخيفة والرهبة قال لهما : إنكما إن أسلمتما له سلمتما في عاجله وآجله ، وإن آثرتما دينكما وغضارة أيكتكما وشححتما بمنزلتكما من الشرف في قومكما فلست أحجر عليكما الضنين بما نلتما من ذلك ، ولكنكما بدهتما محمّداً صلّى الله عليه وآله بتطلّب المباهلة ، وجعلتماها حجازاً وآية بينكما وبينه ، وشخصتما من نجران وذلك من تألكما ، فأسرع محمّد صلّى الله عليه وآله إلى ما بغيتما منه ، والأنبياء إذ أظهرت بأمر لم ترجع إلاّ بقضائه وفعله ، فإذا نكلتما عن ذلك وأذهلتكما مخافة ما تريان ، فالحظّ في النكول لكما.
فالوحا يا إخوتي الوحا ، صالحا محمّداً وأرضياه ، ولا ترجيا ذلك، فإنّكما وأنا معكما بمنزلة قوم يونس لمّا غشيهم العذاب.
قالا : فكن أنت يا ابا المثنى الذي تلقى محمّداً صلّى الله عليه وآله بكفالة ما يبتغيه لدينا ، والتمس لنا إليه ابن عمه هذا ليكون هو الذي يبرم الأمر بيننا وبينه ، فإنّه ذو الوجه والزعيم عنده ، ولا تبطئن ما ترجع إلينا به.
وانطلق المنذر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، أشهد أن لا إله إلاّ الله الذي ابتعثك ، وأنك وعيسى عبدان لله عزّ وجلّ مرسلان.
فأسلم وبلغه ما جاء له ، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّاً عليه السلام لمصالحة القوم ، فقال عليّ عليه السلام : بأبي أنت ، على ما أصالحهم ؟
فقال له : رأيك يا أبا الحسن فيما تبرم معهم رأيي.
فصار إليهم فصالحاه على ألف حلّة وألف دينار خرجاً في كلّ عام ، يؤدّيان شطر ذلك في المحرم وشطراً في رجب.
فصار عليّ عليه السلام بهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ذليلين صاغرين ،وأخبره بما صالحهما عليه وأقرّا له بالخرج والصغار.
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : قد قبلت ذلك منكم ، أمّا إنّكم لو بالهتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله عليكم الوادي ناراً تأجّج ، ثمّ لساقها الله عزّ وجلّ إلى من ورائكم في أسرع من طرف العين فحرقهم تأجّجاً.
فلمّا رجع النبيّ صلّى الله عليه وآله بأهل بيته وصار إلى مسجده هبط عليه جبرئيل عليه السلام فقال : يا محمّد ! إن الله عزّ وجلّ يقرؤك السلام ويقول : إن عبدي موسى عليه السلام باهل عدوه قارون بأخيه هارون وبنيه ، فخسفت بقارون وأهله وما له وبمن آزره من قومه ، وبعزّتي أقسم وبجلالي ـ يا أحمد ـ لو باهلت بك وبمن تحت الكساء من أهلك أهل الأرض والخلائق جميعاً لتقطّعت السماء كسفاً والجبال زبراً ، ولساخت الأرض فلم تستقرّ أبداً إلاّ أن أشاء ذلك.
فسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله ووضع على الأرض وجهه ، ثمّ رفع يديه حتّى تبين للناس عفرة إبطيه ، فقال : شكراً للمنعم ـ قالها ثلاثاً ـ.
فسئل النبيّ صلّى الله عليه وآله عن سجدته وعما رُئى من تباشير السرور في وجهه ، فقال : شكراً لله عزّ وجلّ لما أبلاني من الكرامة في أهل بيتي ، ثمّ حدّثهم بما جاء به جبرئيل عليه السلام »(2) .

(1) سورة آل عمران 3 : 64 .
(2) إقبال الأعمال : 813 ـ 840 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *