المراجعة (6)

المراجعة (6)

* قال السيّد :
1 ـ ولذا قرنهم بمحكم الكتاب وجعلهم قدوةً…

أقول :
هذا إشارة إلى عدّة من الأحاديث النبويّة الآمرة باتّباع العترة والتمسّك بهم والأخذ عنهم ، والناهية عن تعليمهم والتقدّم عليهم والتخلّف عنهم… وسيتعرّض لها بالتفصيل.

قال رحمه الله :
2 ـ وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : « فأين تذهبون ! وأنّى تؤفكون ! … ».
وقال عليه السلام : « انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم… ».
وقال عليه السلام : « عترته خير العتر… ».
وقال عليه السلام : « نحن الشعار والأصحاب… ».
وقال عليه السلام : « واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد… ».
وقال عليه السلام : « بنا اهتديتم في الظلماء… ».

أقول :
هذه نصوص روايات واردة عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام في كتاب « نهج البلاغة » فهنا مطالب :
1 ـ إنّ هذه الأوصاف التي نقلها السيّد عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام لا يشكّ مسلم في كونها حقّاً وحقيقة واقعة ، سواء كانت أسانيد هذه الكلمات معتبرةً أو لا ، وسواء كانت في « نهج البلاغة » أو غيره من الكتب ، وسواء كان « نهج البلاغة » للشريف الرضي أو لأخيه أو غيرهما… وبالجملة ، فإنّ متونها تشهد بصدقها !
فهل تشكّون ـ أيّها المسلمون ـ في أنّ أهل بيت النبوّة « لن يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى » ؟! وأنّهم يصلحون لأن يكونوا قدوةً لكم « فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا » ؟!
وهل يشكّ عاقل فاهم في جلالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنّ « عترته خير العتر ، وأسرته خير الأسر ، وشجرته خير الشجر… » ؟! فإن لم يكونوا كذلك ، فأيّ عترة خير العتر ؟! وأيّ اُسرة خير الأسر ؟! وأيّ شجرة خير الشجر ؟! آل فلان ؟! أم فلان ؟! أم بنو أميّة ؟!
أليس أهل بيته « شجرة النبوّة ، ومحطّ الرسالة ، ومختلف الملائكة… » ؟!
ومن ينكر قوله « ناظرنا ومحبّنا ينتظر الرحمة ، وعدوّنا ومبغضنا ينتظر السطوة » إلاّ العدوّ والمبغض ؟!
ومن المخالف في أنّ المخالفين لأهل البيت « آثروا عاجلاً وأخّروا آجلاً… » ؟!
وتلخّص : أنّ هذه حقائق ثابتة ، لا شكّ فيها كي تحتاج إلى سند أو برهان…
2 ـ على أنّ السيّد ـ رحمه الله ـ إنّما استدلّ بما جاء في « نهج البلاغة » باعتبار أنّ هذا الكتاب من الكتب المتّفق عليها ، لأنّ الكثيرين من العلماء المحقّقين من غير الشيّعة الإماميّة تلقّوه بالقبول ، وتناولوه بالشرح والتفسير والتعليق.
وعلى الجملة ، فإنّ أحداً لم يشكّ في أنّ ما في « نهج البلاغة » من كلام الإمام عليّ عليه السلام.
نعم ، قال بعضهم : « أكثره » من كلامه… لوجود ( الخطبة الشقشقية ) فيه ، كماسنشير.
ولولا صحّة إسناد الكتاب إلى الإمام عليّ عليه السلام لما تكلّم بعضهم في جامعه ، كابن خلّكان حين شكّك في أنّه الرضي أو المرتضى ، وكالذهبي حين اختلف كلامه… كما سيأتي.
ولولا صحّة إسناده لما شكّك آخرون استناداً إلى شبهات واهية كاشتمال الكتاب على « دقّة الوصف » و« التنميق اللفظي » ونحو ذلك… ممّا ستأتي الإشارة إليه.
ومن هنا :

قيل :
« والعجب كلّ العجب من الشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد ، فإنّه لمّا ساق حجج المتشكّكين في نسبة نهج البلاغة إلى علىّ ـ رضي الله عنه ـ لم يتعرّض لقضيّة السند أبداً ، مع أنّه كان ينبغي أن يتعرّض لهذه القضيّة أوّلا فإذا صحّ السند نظرنا في المتن ».

أقول :
كأنّ هذا القائل لم ير بعينه كلمة هذا الشيخ الصريحة في أنّ أحداً لم يشكّ في أنّ أكثر ما تضمّنه نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام… وستأتي عبارته ، مع التنبيه على السبب في تعبيره بـ « الأكثر ».
وعلى كلّ حال ، فإنّ ذكر هذا الشيخ وغيره الأوهام المشكّكة في « نهج البلاغة » من تلك الجهات ، هو من خير الأدلّة على ثبوت الكتاب وصحّة نسبته ، لأنّهم يعلمون أنّ التطرّق إلى هذه الأمور إنّما يكون بعد الفراغ من البحث السندي.
3 ـ وإنّ ما حواه كتاب « نهج البلاغة » قد ثبت وتحقّق وجوده في كتب العلماءالمتقدّمين على مؤلّفه ، من شيعة وسنّة(1) .
4 ـ نعم ، يصعب عليهم قبول ( الخطبة الشقشقيّة ).. والظنّ الغالب أنّه لولا وجودها في نهج البلاغة لما شكّك المتشكّكون منهم في نسبة شيء من الخطب والكتب والكلمات المرويّة فيه إلى أمير المؤمنين عليه السلام.

قيل :
« ومن قرأ خطبته المعروفة بالشقشقيّة جزم أنّه لا يمكن لمن هو في مثل مقام عليّ ـ رضي الله عنه ـ أن يقول ذلك ، فإنّ هذا ممّا يتعارض مع ما صحّ عنه من أكثر من طريق من تفضيل أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ والثناء عليهما. وهذه الخطبة المنسوبة زوراً وبهتاناً إليه ـ رضي الله عنه ـ تنطوي على أسوأ الإزراء بكبار الصحابة الكرام : أبي بكر وعمر وعثمان ، وباقي العشرة ، بل فيها سبّ صراح ، واتّهام بخيانة الأمّة ، وسخريّة لا تصدر إلاّ عن أمثال الرافضة الّذين يجلّ علىّ ويسمو عن مثل ما يقولون .
ففي الصحيحين : عن ابن عبّاس ، قال : وضع عمر على سريره ، فتكنّفه الناس يدعون ويثنون ويصلّون عليه قبل أن يرفع ، وأنا فيهم ، فلم يرعني إلاّ رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي ، فالتفت فإذا هو عليّ ، وترحّم على عمر ، وقال : ما خلَّفتَ أحداً أحبّ إليَّ أن ألقى الله عزّ وجلّ بمثل عمله منك ، وأيم الله إن كنت لأظنّ أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وذاك أنّي كنت كثيراً أسمع النبيّ صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم يقول : جئت أنا وأبو بكر وعمر.. ودخلت أنا وأبو بكر وعمر.. وخرجت أنا وأبو بكر وعمر.. فإن كنت لأرجو أو أظنّ أن يجعلك الله معهما.
البخاري 2 : 527 / 3685 ، ومسلم 4 : 198 / 2389 ».

أقول :
ولعلّ وجود هذه الخطبة في « نهج البلاغة » هو السبب في قول بعضهم بأنّ أكثره من كلام الإمام عليه السلام ، فهم من جهة لا يتمكّنون من إنكار أصل الكتاب ، ومن جهة أخرى لا يتمكّنون من تصديق الخطبة الشقشقيّة ، لأنّها ـ في الحقيقة ـ تهدم أساس المذهب الذي هم عليه :
يقول الشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد : « وليس من شكّ عند أحد من أدباء هذاالعصر ، ولا عند أحد ممّن تقدّمهم ، في أنّ أكثر ما تضمّنه نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام. نعم ليس من شك عند أحد في ذلك… »(2) .
لكنّ الدليل على كونها من كلامه هو التعرّض لها أو ذكرها في كلمات العلماء السابقين على الشريف الرضي والمتأخّرين عنه ، من إماميّة ومعتزلة وسنّة ، وإن شئت التفصيل فراجع(3) .
وأمّا أنّها تتناقض وما رواه القوم عن الإمام عليه السلام في الثناء على الشيخين وغيرهما ، فالجواب عن ذلك :
أوّلا : إنّ الخطبة مرويّة عند الشيعة وغيرهم ، فهي متّفق عليها ، وما رووه عن أميرالمؤمنين عليه السلام من الثناء عليهم متفرّدون بروايته ، ولا تعارض بين المتفرّد به والمتّفق عليه.
وثانياً : إنّ شرط التعارض هو الحجّية في طرفي التعارض كليهما ، وحجّية الخطبة ثابتة دون أخبارهم المشار إليها ، كما لا يخفى على من نظر في أسانيدها.
وثالثاً : إنّ عمدة أخبارهم في ثناء الإمام عليه السلام على القوم هو الخبر الذي أورده عن كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين. لكنّك إذا لاحظت سنده ـ بغضّ النظر عن البخاري ومسلم ، المجروحَين لدى كبار أئمّة القوم من السابقين واللاحقين ـ رأيته ينتهي في جميع طرقه إلى « ابن أبي مليكة » :
وهو رجل لا يجوز الاعتماد على روايته مطلقاً ، لا سيّما في مثل هذه الأمور ! لأنّه تيمىّ من عشيرة أبي بكر ، ولأنّه كان من مناوئي أمير المؤمنين عليه السلام ، ولأنّه كان قاضي عبد الله بن الزبير في مكّة ! ولأنّه كان مؤذّن عبد الله بن الزبير !
وله قوادح غير ماذكر ، فراجع ترجمته(4) .
على أنّا نكذّب كلّ خبر جاء فيه أسماء الخلفاء الأربعة على ترتيب الخلافة ، وقد حقّقت ذلك في رسالة مفردة(5) .

(1) يراجع بهذا الصدد كتاب : « مصادر نهج البلاغة » .
(2) لاحظ مقدّمة شرحه على « نهج البلاغة » .
(3) مصادر نهج البلاغة أسانيده .
(4) تهذيب التهذيب 5 : 268 .
(5) الرسائل العشر ، الرسالة التاسعة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *