حديث: علي مع الحق، كذب

حديث علي مع الحق، كذب
قال العلاّمة: «وقد رووا جميعاً: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: عليّ مع الحق والحق معه يدور معه حيث دار، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».
فقال ابن تيميّة: «قوله: إنهم رووا جميعاً… من أعظم الكلام كذباً وجهلا، فإنّ هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، فكيف يقال: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممّن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثاً، والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلا؟بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل: رواه بعضهم وكان يمكن صحته لكان ممكناً، فكيف وهو كذب قطعاً على النبي صلّى الله عليه وسلّم؟»(1).
فاُنظر كيف يؤكّد على كذب هذا الحديث، وقد كرّر كلمة الكذب أربع مرّات، ونفى أن يكون مرويّاً عن أحد من الصحابة ولو بإسناد ضعيف، وبالتالي ادّعى القطع على أنه كذب.
وما ذلك كلّه إلاّ لعدم المجال للمناقشة في مدلول هذا الحديث، بتأويل ولو بعيد كلّ البعد عن ظاهر اللّفظ، فإذا أثبتنا كونه مرويّاً عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا عن واحد من الصحابة، ولا بإسناد ضعيف، بل صحيح نصّ على وثاقة رواته من يرجع إليه في أمثال المقام… ظهر صحّة استدلال العلاّمة وغيره من أعلام الإمامية بهذا الحديث في سائر المقامات، ومنها في قضيّة ما كان بين الزهراء الطاهرة وأبي بكر، حول فدك وغير فدك من ممتلكاتها وحقوقها…
وبعد، فقد جاء حديثُ كون علي مع الحق والحق مع علي، وأنه يدور معه حيث دار، ولن يفترقا… عن جمع كبير من الصّحابة، ونكتفي من رواته عنهم ببعض الأعلام المتقدّمين على ابن تيمية:
أوّلهم: أميرالمؤمنين عليه السّلام، وأخرجه عنه الترمذي في باب مناقبه، وكذا الحاكم في المستدرك وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»(2).
والثّاني: سيّدتنا اُمّ سلمة، وأخرجه عنها: الطبراني وأبو بشر الدولابي(3) والخطيب البغدادي(4) وابن عساكر(5).
والثالث: سعد بن أبي وقّاص، أخرجه البزّار، فقد قال الهيثمي: «وعن محمّد بن إبراهيم التيمي: إنّ فلاناً دخل المدينة حاجّاً، فأتاه الناس يسلّمون عليه، فدخل سعد فسلّم، فقال: وهذا لم يعنّا على حقّنا على باطل غيرنا. قال: فسكت عنه، فقال: مالك لا تتكلّم؟ فقال: هاجت فتنة وظلمة فقلت لبعيري: اخ اخ، فأنخت حتى انجلت. فقال رجل: إني قرأت كتاب الله من أوّله إلى آخره فلم أر فيه اخ اخ! فقال: أما إذ قلت ذاك، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: علي مع الحق أو الحق مع علي حيث كان. قال: من سمع ذلك؟ قال: قاله في بيت امّ سلمة. قال: فأرسل إلى امّ سلمة فسألها. فقالت: قد قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي. فقال الرجل لسعد: ما كنت عندي قط ألوم منك الآن؟ فقال: ولم؟ قال: لو سمعت هذا من النبي صلّى الله عليه وسلّم لم أزل خادماً لعلي حتى أموت.
رواه البزار. وفيه سعد بن شعيب ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح»(6).
أقول:
وإنما أوردته لما فيه من الفوائد:
الأولى: الوقوف على دَجَل القوم، فإنّ «فلاناً» هو «معاوية» و«سعد» هو «ابن أبي وقاص» فسعدٌ كان قد سمع هذا الكلام، ولم يُخبر به أحداً، فكان ممّن كتم الشهادة بالحق، وأيضاً: لم يعمل به، فكان ممّن خذل الحق ـ كما وصف أمير المؤمنين سعداً وأمثاله بعد عثمان ـ وإن ثبت بعد ذلك ندمه على عدم قتاله الفئة الباغية مع علي. ومعاوية كان قد سمع هذا الكلام وغيره من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قطعاً، والآن ـ وبعد أن تغلّب على الأمر ـ يلوم سعداً على عدم إخباره بهذا الحديث، ويقول ـ كذباً ولعنة الله عليه ـ ولو سمعت من النبيّ لم أزل خادماً لعلي حتى أموت.
والثانية: أن في هذا الحديث شهادة اثنين من الصحابة بصدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أحدهما هو سعد وهو من القاعدين عن نصرته والخاذلين له، ثم اُمّ سلمة اُم المؤمنين، وهي علويّة النزعة، فرحمها الله رحمةً واسعة.
والثالثة: أنّ الحديث أخرجه البزّار، وهو من أعلام الحديث، صاحب المسند الكبير الشهير، رواه عنه أبو بكر الهيثمي، وهو من أعلام الحفّاظ، ونصَّ على أن رجاله رجال الصحيح إلاّ أنّه لم يعرف منهم «سعد بن شعيب»، وذلك لا يضرُّ بعد أن كان سائر رجال الحديث من رجال الصّحاح، فإنّهم لا يروون عمّن لا يعرفونه، على أنّ الهيثمي ربما قال هذه الكلمة في أشخاص لا كلام في وثاقتهم، كقوله في فاطمة بنت أميرالمؤمنين عليه السلام: «وفاطمة بنت علي بن أبي طالب لم أعرفها»(7) مع كونها من رجال النسائي وابن ماجة في التفسير، ووثّقها الحافظ ابن حجر العسقلاني في (تقريب التهذيب)(8).
ومع التنزّل عن هذا كلّه، فإنّ الحديث يصحُّ بمعونة الروايات الاُخرى الصحيحة حتى عند الهيثمي.
والرّابع: أبو سعيد الخدري، أخرجه أبو يعلى، قال الهيثمي: «وعن أبي سعيد ـ يعني الخدري ـ قال: كنّا عند بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفر من المهاجرين والأنصار فقال: ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى. قال: الموفون الطيّبون; إنّ الله يحبّ الحفي التّقي. قال: ومرَّ علي بن أبي طالب، فقال: الحق مع ذا، الحق مع ذا.
رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات»(9).
والخامس: كعب بن عجرة، أخرجه الطبراني في الكبير، قال المتقي: «تكون بين الناس فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه على الحقّ ـ يعني علياً»(10).
والسادس: عائشة، فإنّه لمّا ذكّرها أخوها في البصرة بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعلت تبكي، وأظهرت الندم على خروجها(11).
نكتفي بهذا القدر لتبيين كذب ابن تيميّة وتزويره، وهناك صحابة آخرون يروى عنهم هذا الحديث، كأبي ذر وابن عبّاس وغيرهما… ومن شاء فليرجع إلى مظانّه.

حديث المؤاخاة، كذب
ولقد سعى ابن تيميّة جادّاً لتكذيب حديث المؤاخاة، وأصرّ على كذبه في مواضع عديدة من كتابه، وما ذلك إلاّ لعلمه بصحة هذا الحديث وكونه من خصائص أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسّلام،… فلننقل أولا كلماته:
«أمّا حديث المؤاخاة فباطل موضوع، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخ أحداً…»(12).
«إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخ علياً ولا غيره، وحديث المؤاخاة لعلي، ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب»(13).
«إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخ علياً ولا غيره، بل كلّ ما روي في هذا فهو كذب»(14).
«إن أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض والأنصار بعضهم مع بعض، كلّها كذب، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخ علياً»(15).
«إن أحاديث المؤاخاة لعلي كلّها موضوعة»(16).
أقول:
والذي نحن الآن بصدد إثباته هو الاخوّة بين النبي والأمير ـ عليهما وآلهما الصلاة والسلام ـ في قصّة «المؤاخاة»، وأمّا خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي «أنت أخي»، وإعلانه للامّة ـ في موارد شتى ـ كونهما أخوين، وقول أميرالمؤمنين «أنا عبد الله وأخو رسول الله» ونحو ذلك فكثير جدّاً، بل يعسر استقصاؤه.. فالمقصود هنا هو قصّة المؤاخاة، وابن تيميّة أنكرها وكذّبها لا مرةً بل مرّات…
لقد آخى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أصحابه، وكان من ذلك أن آخى بين أبي بكر وعمر… فقال علي عليه السلام له: آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنت أخي في الدنيا والآخرة».
راجع: الترمذي 5/595، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/16، المستدرك على الصحيحين 3/15 ـ 16، مصابيح السنّة 4/173، الإستيعاب 3/1099، البداية والنهاية 7/371، الرياض النضرة 3/124، مشكاة المصابيح 3/1721، الصواعق المحرقة: 122، تاريخ الخلفاء: 170، وغيرها… وهذه الروايات هي عن جمّ غفير من الأصحاب، وعلى رأسهم: أميرالمؤمنين عليه السّلام، ومنهم: عبدالله بن عبّاس، وأبو ذر الغفاري، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وزيد بن أرقم…
وفي بعض الروايات أجاب علياً بقوله: «والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلاّ لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووارثي». ومن رواته: أحمد بن حنبل في المناقب، الحديث: 141، وابن عساكر بترجمة علي عليه السلام برقم 148 1/108، والمتقي في كنز العمال 13/106 عن أحمد في المناقب.
وتجد خبر المؤاخاة، وأنّه آخى بينه وبين علي عليه السّلام في سائر كتب السير والتواريخ، فراجع: سيرة ابن هشام 2/150، السيرة النبوية لابن حبان: 149، عيون الأثر لابن سيد الناس 1/230، السيرة الحلبية 2/20، وفي هامشها سيرة زيني دحلان 1/299.
ولقد أحسن غير واحد من الحفّاظ والعلماء الأعلام، حيث عنوا بالردّ على ابن تيميّة في هذا المقام، وإليك نصّ عبارة الحافظ ابن حجر ـ وهو عندهم شيخ الإسلام ـ فإنّه بعدأن ذكر من أخبار المؤاخاة عن: الواقدي، وابن سعد، وابن إسحاق، وابن عبد البر، والسهيلي، وابن كثير، وغيرهم قال: «وأنكر ابن تيمية في كتاب الردّ على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي، قال: لأنّ المؤاخاة شرّعت لإرفاق بعضهم بعضاً، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحد منهم، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري.
وهذا ردّ للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى…
قلت: وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني. وابن تيمية يصرّح بأن أحاديث المختارة أصحّ وأقوى من أحاديث المستدرك…»(17).
وقال الزرقاني المالكي تحت عنوان «ذكر المؤاخاة بين الصّحابة رضوان الله عليهم أجمعين»: «وكانت ـ كما قال ابن عبد البر وغيره ـ مرّتين، الاُولى بمكّة قبل الهجرة، بين المهاجرين بعضهم بعضاً على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر، و… وهكذا بين كلّ اثنين منهم إلى أن بقي علي فقال: آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: أنا أخوك.
وجاءت أحاديث كثيرة في مواخاة النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي، وقد روى الترمذي وحسّنه والحاكم وصحّحه عن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى؟ قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة.
وأنكر ابن تيمية هذه المؤاخاة بين المهاجرين، خصوصاً بين المصطفى وعلي، وزعم أن ذلك من الأكاذيب، وأنّه لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، قال: لأنها شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً…
وردّه الحافظ بأنه ردّ للنص بالقياس…»(18).
وبما ذكرنا كفاية لمن أراد الرشاد والهداية.

(1) منهاج السنة 4/238ـ239.
(2) المستدرك على الصحيحين كتاب معرفة الصحابة ذكر إسلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، الحديث 4629، 3/135.
(3) مجمع الزوائد ـ كتاب المناقب، باب الحق مع علي: 9/135. الكنى والأسماء ـ حرف القاف ـ من كنيته أبو قيس وأبو قيلة 2/89.
(4) تاريخ بغداد الترجمة 7643، يوسف بن محمّد بن المؤدب 14/321.
(5) ترجمة أميرالمؤمنين من تاريخ دمشق 3/118.
(6) مجمع الزوائد ـ كتاب الفتن، باب فيما كان في الجمل وصفين وغيرهما ـ 7/235ـ236.
(7) مجمع الزوائد ـ كتاب علامات النبوة، باب حبس الشمس له 8/297.
(8) تقريب التهذيب ـ باب النساء، الترجمة 8654 فاطمة بنت علي بن أبي طالب: 668.
(9) مجمع الزوائد ـ كتاب الفتن، باب فيما كان في الجمل وصفين وغيرهما ـ 7/234ـ235.
(10) كنز العمال ـ كتاب الفضائل من اقسام الافعال ـ فضائل علي رضي الله عنه، الحديث 33016ـ11/621.
(11) الامامة والسياسة ـ التحام الحرب 1/73.
(12) منهاج السنة 4/32.
(13) منهاج السنة 5/71.
(14) منهاج السنة 7/117.
(15) منهاج السنة 7/279.
(16) منهاج السنة 7/361.
(17) فتح الباري، كتاب مناقب الأنصار، باب كيف آخى النبي بين الصحابة 7/271.
(18) شرح المواهب اللدنية 1/273.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *