13- جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غيره

13 ـ جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي
هذا كلامه(1).
ومدائن الإسلام في ذلك الزّمان: المدينة المنوّرة، مكة المكرمة، الشام، البصرة، الكوفة، اليمن، فنقول:
المدينة المنوّرة
أمّا (المدينة المنوّرة) فقد قضى عليه الصلاة والسّلام أكثر عمره الشريف فيها، وقد عرفت ـ ممّا نقلناه من كلام النووي ـ أنّه كان معلِّم أكابر الصحابة فضلا عن غيرهم…
مكّة المكرّمة
وأمّا (مكّة المكرّمة) فقد عاش فيها عليه الصلاة والسلام منذ الولادة حتى الهجرة، وقد أتاها بعد الإستيطان في المدينة المنوّرة مرّات عديدة، فكيف يقال بعدم بلوغ العلم عنه إلى أهل مكة؟
على أنّ تلميذه الخاص به «عبدالله بن عبّاس» أقام في مكة زمناً طويلا يعلّمهم القرآن وينشر العلم، قال الذهبي بترجمة ابن عبّاس: «الأعمش، عن أبي وائل: إستعمل علي ابن عبّاس على الحج، فخطب يومئذ خطبةً لو سمعها الترك والروم لأسلموا. ثم قرأ عليهم سورة النّور، فجعل يفسّرها»(2).
وقال ابن سعد: «أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني واقد بن أبي ياسر عن طلحة بن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة: إنها نظرت إلى ابن عبّاس ـ ومعه الخلق ليالي الحج، وهو يسئل عن المناسك ـ فقالت: هو أعلم من بقي بالمناسك»(3).
وقال أبو عمر ابن عبد البر: «روى: أن عبدالله بن صفوان بن اميّه مرّ يوماً بدار عبدالله بن عبّاس بمكة، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه، ومرّ بدار عبيدالله ابن عبّاس، فرأى فيها جمعاً ينتابونها للطّعام، فدخل على ابن الزبير فقال له: أصبحت والله كما قال الشاعر:
فإن تصبك من الأيّام قارعة *** لم تبك منك على دنيا ولا دين
قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان ابنا عبّاس: أحدهما يفقّه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة. فدعا عبدالله بن مطيع وقال: انطلق إلى ابني عبّاس، فقل لهما: يقول لكما أميرالمؤمنين أخرجا عنّي أنتما ومن أصغى إليكما من أهل العراق، وإلاّ فعلت وفعلت. فقال عبدالله بن عبّاس لابن الزبير: والله ما يأتينا من الناس إلاّ رجلان، رجل يطلب فقهاً، ورجل يطلب فضلا، فأيّ هذين تمنع!. وكان بالحضرة أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، فجعل يقول:
لا درّ درّ الليالي كيف تضحكنا *** منها خطوب أعاجيب وتبكينا
ومثل ما تحدث الأيام من عبر *** في ابن الزبير من الدنيا تسلينا
كنّا نجيء ابن عبّاس فيسمعنا *** فقهاً ويكسبنا أجراً ويهدينا
ولا يزال عبيد الله مترعة *** جفانه مطعماً ضيفاً ومسكينا
فالبر والدين والدنيا بدارهما *** ننال منها الذي نبغي إذا شينا
إلى آخر الأبيات»(4).
ولقد ثبت نشر ابن عبّاس ـ تلميذ أميرالمؤمنين ـ تفسير القرآن في أهل مكة وتحقّق، حتى اعترف بذلك ابن تيمية نفسه، ومن هنا وصف أهل مكة بأنهم أعلم الناس بالتفسير، ففي (الإتقان): «قال ابن تيميّة: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عبّاس رضي الله عنهما، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عبّاس، وسعيد بن جبير، وطاوس، وغيرهم»(5).
الشام
وأما (أهل الشام) فأعلمهم وأفقههم ـ كما يقال ـ أبو الدرداء، وهو أخذ من عبدالله بن مسعود، وابن مسعود من تلامذة أميرالمؤمنين عليه السلام، قال الذهبي بترجمة أبي الدرداء: «وكان عالم أهل الشام، ومقرىء أهل دمشق، وفقيههم وقاضيهم»(6).
وقال الموفّق بن أحمد المكي: «عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: العلماء ثلاثة، رجل بالشام ـ يعني نفسه ـ ورجل بالكوفة ـ يعني عبدالله بن مسعود ـ، ورجل بالمدينة ـ يعني علياً عليه السّلام ـ والذي بالشام يسأل الذي بالكوفة، والذي بالكوفة يسأل الذي بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسأل أحداً»(7).
وقال محبّ الدين الطبري: «عن أبي الزعراء عن عبدالله قال: علماء الأرض ثلاثة، عالم بالشام، وعالم بالحجاز، وعالم بالعراق، فأمّا عالم أهل الشام فهو أبو الدرداء، وأمّا عالم أهل الحجاز فهو على بن أبي طالب، وأمّا عالم العراق فأخ لكم، وعالم أهل الشام وعالم أهل العراق يحتاجان إلى عالم أهل الحجاز، وعالم أهل الحجاز لا يحتاج إليهما. أخرجه الحضرمي»(8).
هذا، بالإضافة إلى رجوع معاوية ـ وهو حاكم أهل الشام ـ إلى أميرالمؤمنين في المعضلات بكثرة، كما ستطّلع على تفاصيل ذلك فيما بعد، إن شاء الله، في مبحث الأعلميّة.
البصرة
وأمّا (البصرة) فورود الإمام عليه السّلام إليها بنفسه، وكثرة خطبه وإرشاداته ومواعظه فيها غير مخفي على أحد، وإن شئت تفاصيل ذلك، فارجع إلى التواريخ، كتاريخ ابن جرير الطبري وغيره.
كما لا يخفى على أحد ولاية ابن عبّاس على البصرة من قبله، وأخذ أهلها منه الفقه والتفسير مدة إقامته فيها.
فلا يبقى أيّ ريب في بلوغ العلم من الإمام عليه السلام إلى أهل البصرة، وإليك بعض الكلمات الصريحة في أخذ أهل البصرة من ابن عبّاس تلميذ الإمام عليه السلام، والوالي عليها من قبله:
«المدائني عن نعيم بن حفص قال أبو بكر قدم ابن عباس علينا البصرة، وما في العرب مثله جسماً وعلماً وبياناً وجمالا وكمالا»(9).
وقال ابن سعد: «أخبرنا عبدالله بن جعفر الرقي نا معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن قال: أوّل من عرف بالبصرة عبدالله بن عبّاس، قال: وكان مثجة كثير العلم. قال: فقرأ سورة البقرة ففسّرها آية آية»(10).
وقال ابن حجر: «وأخرج الزبير بسند له أن ابن عبّاس كان يغشى الناس في رمضان، وهو أمير البصرة، فما ينقضي الشهر حتى يفقّههم»(11).
فظهر أنّ الإمام عليه السلام قد انتشر علمه في جميع البلدان الإسلامية، من مكة والمدينة والشام والبصرة وغيرها، إلاّ أنّ ذلك لا يلزم أن يكون كلّ من أخذ منه أو بلغه علمه عليه السلام من التابعين له والقائلين بإمامته، كما هو واضح.
الكوفة
وأمّا قول ابن تيميّة: «وإنّما كان غالب علمه بالكوفة» ففيه: أنّ علم الإمام عليه السلام ـ وهو بعينه علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان في الكثرة والغزارة بحيث لو أخذ منه أهل العالم كلّهم أجمعون لوسعهم من غير أن تنفد علومه، وأنّى كان للكوفة وأهلها أن يسعوا غالب علمه عليه السّلام وهو القائل على منبر الكوفة: «سلوني قبل أن تفقدوني، فإنما بين الجوانح منّي علم جم، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، هذا ما زقّني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زقاً من غير وحي أوحى الله إلي، فو الله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها، لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتى ينطق الله التوراة والإنجيل، فيقول: صدق علي، أفتاكم بما أنزل فيّ، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون».
وكان يقول عليه السلام مشيراً إلى صدره الشريف: «كم من علوم ههنا لو وجدت لها حاملا».
وقال أيضاً: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير سورة الفاتحة».
وإن أراد ابن تيميّة أنّ غالب ما ظهر من علومه كان بالكوفة، ففيه: إن غالب ذلك كان بالمدينة لا بالكوفة، فإن رجوع الشيوخ الثّلاثة وغيرهم من الأصحاب إليه في المعضلات والمشكلات كان بالمدينة، وأمّا في الكوفه فلم يتفرّغ للتعليم والإرشاد، لاشتغاله عليه السلام فيها غالباً بما يتعلّق بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
قال: «ومع هذا، فأهل الكوفة قد تعلّموا القرآن والسنّة من قبل أن يتولّى عثمان فضلا عن علي».
أقول: يريد ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنّة على عهد عمر بن الخطاب، ولكن هذاتوهّم باطل وخيال فاسد، وذلك لوجوه:
الأول: إن الكوفة إنما اختطّت للمسلمين في السنة السابعة عشرة، وقد كان موت عمر بن الخطاب في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة، فكيف تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنّة ـ أو أكثرهما ـ في مدة ستة سنوات، مع أنّ عمر بن الخطاب قد تعلّم سورة البقرة وحدها في اثنتي عشرة سنة، كما في (الدر المنثور)(12) وغيره؟
الثاني: كيف يدعي ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنّة عن عمر بن الخطاب، مع ما ثبت واشتهر من جهل عمر بألفاظ القرآن ومعانيه، ومجانبته للسنّة الشريفة ومعالمها؟ فإن أراد تعلّمهم القرآن والسنّة من أتباعه وأشياعه، فهم كانوا أدنى مرتبةً وأقل شأناً من إمامهم.
الثالث: إنّ الذي ورد الكوفة من قبل عمر بن الخطاب هو عمّار بن ياسر يصحبهُ عبد الله بن مسعود، فإن أراد ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة من هذين الرجلين فذاك يضرّه ولا ينفعه، لأن هذين الصحابيّين الجليلين ـ وإن كان المرسل لهما إلى الكوفة هو عمر بن الخطّاب ـ من أشهر وأفضل تلامذة أميرالمؤمنين عليه السلام والآخذين عنه، فثبت أنّ أهل الكوفة قد تعلّموا القرآن والسنّة وأخذوهما عن باب مدينة العلم وهو علي، والحمد لله على ظهور الحق. وإليك بعض الشواهد على ما ذكرناه:
قال ابن سعد: «أخبرنا عفان بن مسلم و موسى بن إسماعيل قالا: نا وهيب عن داود عن عامر: إن مهاجر عبدالله بن مسعود كان بحمص، فحدره عمر إلى الكوفة وكتب إليهم: إني ـ والله لا إله إلاّ هو ـ آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه»(13).
وقال ابن سعد: «أخبرنا وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: قرىء علينا كتاب عمر بن الخطاب: أمّا بعد: فإني بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميراً وابن مسعود معلّماً ووزيراً، وقد جعلت ابن مسعود على بيت مالكم، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمّد من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بابن أُمّ عبد على نفسي، وبعثت عثمان بن حنيف على السواد، ورزقتهم كلّ يوم شاةً، فأجعل شطرها وبطنها لعمّار، والشطر الباقي بين هؤلاء الثلاثة»(14).
وقال ابن عبدالبر: «وبعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة، مع عمّار بن ياسر، وكتب إليهم: إني قد بعثت إليكم بعمّار بن ياسر أميراً وعبدالله بن مسعود معلّماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي»(15).
وقال: «روى شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: قرأت كتاب عمر إلى أهل الكوفة: أمّا بعد: فإني بعثت إليكم عمّاراً أميراً وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأطيعوا لهما واقتدوا بهما، فإني قد آثرتكم بعبد الله على نفسي أثرة»(16).
وقال ابن الأثير: «وسيّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى الكوفة، وكتب إلى أهل الكوفة: إنيّ قد بعثت عمّار بن ياسر أميراً، وعبدالله بن مسعود معلّماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل البدر، فاقتدوا بهما»(17).
وقال الذهبي: «الثوري، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: قرىء علينا كتاب عمر: إني قد بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميراً، وعبدالله بن مسعود معلّماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي»(18).
وقال ابن حجر: «وسيّره عمر إلى الكوفة، ليعلّمهم أمور دينهم، وبعث عماراً أميراً وقال: إنهما من النجباء من أصحاب محمّد، فاقتدوا بهما»(19).
وقال بترجمة عمّار: «ثمّ استعمله عمر على الكوفة، وكتب إليهم أنه من النجباء من أصحاب محمّد»(20).
ومن جميع ما ذكرنا يظهر بطلان قوله الآخر: «وفقهاء أهل المدينة تعلّموا الدين في خلافة عمر» بالإضافة إلى ما ثبت واشتهر من رجوع عمر بنفسه إلى الإمام عليه السلام في المعضلات بكثرة، فلو أنّ أهل المدينة تعلّموا الدّين في خلافة عمر فلابدّ وأنهم قد تعلّموه من أميرالمؤمنين، باب مدينة علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا من عمر الذي اشتهر عنه قوله: «لو لا علي لهلك عمر» وقوله: «كلّ الناس أفقه من عمر حتى المخدّرات في الحجال» وقوله: «ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، ناضلت إمامكم فنضلته».
اليمن
وأمّا قوله: «وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي». فيشتمل على دعاوى عديدة كلّها باطلة:
1 ـ تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن.
2 ـ مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن.
3 ـ إن تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن أكثر من تعليم علي عليه السّلام.
4 ـ إن مقام معاذ فيهم أكثر من مقام علي عليه السّلام.
5 ـ رواية أهل اليمن عن معاذ.
6 ـ إنّ ما رووه عن معاذ أكثر ممّا رووا عن علي عليه السّلام.
وليس لابن تيميّة أيّ دليل أو شاهد لشيء من هذه الدعاوى، فذكر هذه الأمور في مقابلة الإمامية ليس إلاّ سفاهة ورقاعة، بل إنّ كثيراً منها لا يقبل الإثبات على ضوء كلمات أهل السنّة ورواياتهم أيضاً، وتفصيل ذلك هو:
إنّ الأصل في هذا المطلب بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أميرالمؤمنين عليه السّلام ومعاذ بن جبل إلى اليمن، لكن بعث الإمام متّفق عليه بين الفريقين. أمّا بعث معاذ، فممّا رواه أهل السنّة خاصة، ولا يجوز لهم إلزام الشيعة به، ولو سلّمنا ذلك لم يكن فيه نفع لابن تيميّة، لعدم الريب في أنّ بعث الإمام عليه السّلام كان للتعليم والإرشاد، وأنّ بعث معاذ بن جبل كان لأجل جبر حالته الدنيويّة كما هو مذكور في كتب القوم. وأما ما ذكره بعض أهل السنّة من أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث معاذاً إلى اليمن للقضاء، فباطل محض، وافتعال صرف، لم يرد به حديث صحيح، بل الأصل في ذلك الحديث الذي رواه الترمذي، وقدح فيه هو وغيره من أكابر علمائهم، وإن شئت تفصيل الكلام في إثبات وضع هذا الحديث حسب كلمات مشاهير أهل السنّة، فراجع كتاب (إستقصاء الإفحام في الرد على منتهى الكلام).
وإذا كان بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لأمر دنيوي خاص به، لم يجز القول بأنّه راح إليها للتعليم، فضلا عن القول بأنّ تعلّم أهل اليمن منه كان أكثر من تعلّمهم من علي، ولو فرض قيام معاذ ببعض التعليم مع ذلك، فلا ريب في فساد ما ألقاه إليهم، للأدلّة الكثيرة القائمة على جهل معاذ بمسائل الحلال والحرام.
ومع تسليم أنّه بعث إلى اليمن للتعليم كما يدّعي المتخرّصون من أهل السنّة، فإنّ ترجيح تعليمه على تعليم الإمام عليه السّلام غير جائز، لعدم الخلاف بين المسلمين في أنّه عليه السلام أفضل من معاذ بن جبل، وعلى هذا، فلو بقي معاذ في أهل اليمن بمقدار عمر نوح، ولم يلبث فيهم الإمام إلاّ يسيراً، لرجح تعليم الإمام على تعليم معاذ، وكان أفضل وأشدّ تأثيراً وأكثر فائدة، وقد ذكروا أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث خالد بن الوليد إليهم أولا، ولبث فيهم خالد ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجبه أحد، ثم بعث الإمام عليه السلام فأسلم على يده همدان في أول يوم، وهذا أصدق شاهد على أنّ كلام الفاضل أشد تأثيراً من كلام المفضول، وإن كانت إقامته أطول ودعوته أكثر… من هنا يظهر بطلان قياس تعليم الإمام عليه السلام بتعليم غيره، فضلا عن تعليم معاذ على تعليمه، ولنعم ما قال عليه السلام: «لا يقاس بآل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من هذه الاُمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمته عليهم أبداً».
وأمّا ما ادّعاه ابن تيميّة في قوله: «وشريح وغيرهم من أكابر التابعين إنما تفقّهوا على معاذ بن جبل» فكذب شنيع، لا يمكن لأحد من أولياء ابن تيميّة تصحيحه على اُصول السنّية، فضلا عن طريق الإمامية، فإنّ تعلّم شريح من معاذ لم يذكره إلاّ علي بن المديني غير جازم به، بل حكاه عن قائل مجهول، ففي (الإصابة) بترجمة شريح: «وقال ابن المديني: ولي قضاء الكوفة ثلاثاً وخمسين سنة، ونزل البصرة سبع نسين، يقال: إنه تعلّم من معاذ إذ كان باليمن»(21)، ومن الواضح أنّ هكذا أمر لا يثبت بمجرد قول من مجهول.
بل إنّ التتبّع لكتب الرجال والتراجم يفيد بعض القرائن على النفي، منها; عدم ذكر معاذ فيمن روى عنه شريح، ولو كان متفقّهاً عليه لذكر اسمه فيمن روى عنه قبل غيرهم قطعاً، ولا أقل من ذكره فيما بينهم. وإليك نصّ ترجمة ابن حبان لشريح: «شريح بن الحارث القاضي الكندي، حليف لهم.. كنيته أبو أمية، وقد قيل: أبو عبد الرحمن، كان قائفاً، وكان شاعراً، وكان قاضياً، يروي عن عمر بن الخطاب، روى عنه الشعبي، مات سنة سبع وثمانين، وهو ابن مائة سنة وعشر سنين، وقد قيل: إنه مات سنة ثمان وسبعين وهو ابن مائة وعشرين سنة، وكان قد بقي على القضاء خمساً وسبعين سنة، ما تعطّل فيها إلاّ ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير»(22).
وقال النووي: «أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يلقه، وقيل: لقيه، والمشهور الأول، قال يحيى بن معين: كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسمع منه. روى عن: عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعروة البارقي رضي الله عنهم»(23).
وقال ابن حجر: «روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مرسلا، وعن عمر وعلي وابن مسعود وعروة البارقي وعبد الرحمن بن أبي بكر»(24).
وقال الخزرجي: «كان من أجلّة العلماء وأذكى العالم، عن علي وابن مسعود. وعنه: الشعبي وأبو وائل»(25).
وعدم ذكرهم معاذاً فيمن روى عنه شريح قرينة جليّة على عدم روايته عنه، لأنه لو روى عنه ولو قليلا لذكر، لأن ابن تيميّة يرى أنّ قلّة الرواية دليل على قلّة الأخذ، فإذ لم يذكر أصلا فإنه لم يأخذ عنه أبداً.
هذا كلّه بالنسبة إلى دعوى تفقّه شريح على معاذ.
وأمّا دعوى تفقّه غيره من أكابر التابعين على معاذ بن جبل، فهي دعوى عارية عن الدليل، ولم يقل بها قائل معروف ولا مجهول.
وأمّا قوله: «ولمّا قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضياً» فكلام لا نفع له فيه أبداً، فأيّ دليل على صحّة قضاءه في الكوفة قبل ورود الإمام عليه السّلام، وما أكثر الذين نصبوا للقضاء وهم جهّال؟ سلّمنا، لكنّه ممّن روى عن أميرالمؤمنين عليه السلام كما عرفت. هذا مع أنّه كان يرجع في المعضلات الواردة عليه إلى الإمام عليه السلام وعبيدة السلماني وهو من تلامذة الإمام… كما ستعرف عن قريب، فلم يكن مستغنياً عن الأخذ من الإمام عليه السلام، كما لم يستغن عنه الثلاثة وأكابر الصحابة.
فقوله: «وهو وعبيدة السلماني تفقّها على غيره» مردود، لأنّ تفقّه شريح على غير الإمام عليه السلام دعوى بلا دليل، أمّا تفقّهه على معاذ بن جبل ـ كما زعم ـ فقد عرفت عدم الدليل عليه، بل الدليل على عدمه، وأمّا تفقّهه على غير معاذ، فمن هو ذلك الغير؟
وأمّا دعوى تفقّه عبيدة السلماني على غير الإمام عليه السّلام، فمن أعاجيب الأكاذيب، لإجماع علماء الرجال على تفقه عبيدة السلماني على الإمام وعبدالله بن مسعود، قال السمعاني: «هو من أصحاب علي وابن مسعود، رضي الله عنهما، حديثه مخرّج في الصحيحين.. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: عبيدة السلماني كان أعور، وكان أحد أصحاب عبدالله الذين يقرؤن ويفتون، وكان شريح إذا أشكل عليه الشيء قال: إنّ هاهنا رجلا في بني سلمة فيه جرأة، فيرسلهم إلى عبيدة، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه، وكلّ شيء روى محمّد بن سيرين عن عبيدة سوى رأيه فهو عن علي. ومات سنة اثنتين وسبعين أو ثلاث من الهجرة»(26).
وقال النووي: «هو مشهور بصحبة علي. روى عنه: الشعبي والنخعي وأبو حصين وابن سيرين وآخرون، نزل الكوفة، وورد المدينة، وحضر مع علي قتال الخوارج، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين يقرؤن ويفتون، وكان شريح إذا أشكل عليه شيء أرسلهم إلى عبيدة…»(27).
وقال المزي: «قال أحمد بن عبدالله العجلي: كوفي تابعي ثقة جاهلىّ، أسلم قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وكان من أصحاب علي وعبدالله، وكان أعور…، وكان شريح إذا أشكل عليه الشيء قال: إنّ ها هنا رجلا في بني سلمان فيه جرأة فيرسلهم إلى عبيدة، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه وكل شيء روى محمّد بن سيرين عن عبيدة سوى رأيه فهو عن عليّ»(28).
وقال ابن حجر: «وكان من أصحاب علي وعبدالله»(29).
وقال أيضاً: «وعدّه علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود»(30).
فظهر أن ما ذكره من تفقّه عبيدة السلماني على غير الإمام عليه السلام إفك محض وبهت بحت، لأن تفقّهه ليس إلاّ عليه إمّا مباشرةً وإمّا بواسطة تلميذه عبدالله ابن مسعود، لكنّ التفقّه على الإمام عليه السلام والأخذ عنه لا يلازم التشيّع والمتابعة، كما ذكرنا، ومن هنا نرى أنّ هذين الرجلين لم يكونا على مذهب الإمام عليه السلام، بل كان بعض فتاويهما في الكوفة على خلاف رأيه، إلاّ أنّ الإمام تركهما على ذلك خشية الفتنة والإختلاف، ففي البخاري: «حدّثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال: أقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الإختلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي»(31).
وقد أوضح ذلك شرّاح البخاري، قال ابن حجر: «قوله: عن علي قال: أُقضوا كما في رواية الكشميهني على ما كنتم تقضون. قيل: وفي رواية حماد بن زيد عن أيوب: أنّ ذلك بسبب قول علي في بيع أم الولد، وأنّه كان يرى هو وعمر أنهنّ لا يبعن، وأنّه رجع عن ذلك فرأى أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبّ إليّ من رأيك وحدك في الفرقة، فقال علي ما قال. قلت: وقد وقعت في رواية حماد بن زيد، أخرجها ابن المنذر عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم عنه، وعنده قال لي عبيدة: بعث إليّ علي وإلى شريح فقال: إني أبغض الإختلاف، فاقضوا كما كنتم تقضون، فذكره إلى قوله أصحابي، قال: فقبل علي قبل أن يكون جماعة. قوله: فإني أكره الإختلاف، أي الذي يؤدّي إلى النزاع، قال ابن التين: يعني مخالفة أبي بكر وعمر. وقال غيره: المراد المخالفة التي تؤدّي إلى النزاع والفتنة، ويؤيّده قوله بعد ذلك: حتى يكون الناس جماعة…»(32).
فاندفع ما توخّاه بقوله: «فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة» لما عرفت من أنّ علم الإسلام انتشر في المدائن عن طريق باب مدينة العلم فقط دون غيره، وأنّه لا سبيل إلى علم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ من هذا الباب، فمن أتاه فقد امتثل أمر النبي، ومن لم يأته هلك وخسر، وكلّ ما خرج من هذا الباب فهو علم ونور وهداية، وكلّ ما كان على خلافه فهو جهل وظلمة وضلالة.

(1) منهاج السنة 7/516.
(2) تذكرة الحفاظ ـ الترجمة 18، عبدالله بن عبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنهما 1/40ـ41.
(3) الطبقات الكبرى ـ ترجمة ابن عبّاس 2/282.
(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ـ باب عبدالله، الترجمة 1588، 3/937 ـ 938.
(5) الاتقان في علوم القرآن، النوع الثمانون، في طبقات المفسرين، طبقة التابعين 4/240.
(6) تذكرة الحفاظ الترجمة 11، أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله عنه 1/24.
(7) مناقب أميرالمؤمنين الفصل الرابع في بيان غزارة علمه، الحديث 106: 102.
(8) الرياض النضرة ـ الفصل التاسع في ذكر نبذة من فضائله، ذكر علمه وفقهه 3/199 ـ 200.
(9) تذكرة الحفاظ الترجمة 18، عبدالله بن عباس بن عبد المطلب رضي ألله عنهما 1/41. الاصابة الترجمة 4799، عبدالله بن العباس بن عبد المطلب 4/122. وفيه «حشماً» بدل «جسماً» و «ثياباً» بدل «بياناً».
(10) الطبقات الكبرى ـ ترجمة ابن عبّاس 2/280.
(11) الاصابة ـ الترجمة 4799، عبدالله بن عبّاس بن عبدالمطلب ـ 4/129.
(12) الدر المنثور في التفسير بالمأثور، سورة البقرة 1/52.
(13) الطبقات الكبرى ـ ترجمة عبدالله بن مسعود 3/116.
(14) الطبقات الكبرى ـ ترجمة عمار بن ياسر 3/193.
(15) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، باب عبدالله، الترجمة 1659ـ3/992.
(16) الاستيعاب في معرفة الاصحاب ـ باب عطية، الترجمة 1863ـ3/1140.
(17) أسد الغابة ـ ترجمة عبدالله بن مسعود ـ 3/258.
(18) تذكرة الحفاظ ـ الترجمة 5، ابن مسعود ـ 1/14.
(19) الاصابة ـ الترجمة 4970، عبدالله بن مسعود ـ 4/201.
(20) الاصابة، الترجمة 5720، عمّار بن ياسر ـ 4/473.
(21) الاصابة ـ الترجمة 3899 ـ شريح بن الحارث ـ 3/271.
(22) الثقات لابن حبان باب الشين، شريح بن الحارث القاضى الكندي 4/352ـ353.
(23) تهذيب الأسماء واللغات ـ 249 ترجمة شريح القاضي 1/243.
(24) تهذيب التهذيب ـ الترجمة 2870، شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم 4/298.
(25) خلاصة تذهيب التهذيب: 165.
(26) الأنساب ـ باب السين واللام، السلماني 3/276ـ277.
(27) تهذيب الأسماء واللغات ـ الترجمة 384، عبيدة السلماني 1/317. وفيه «أرسلهم» بدل «أرسل».
(28) تهذيب الكمال ـ الترجمة 3756، عبيدة بن عمرو 19/267 ـ 268.
(29) تهذيب التهذيب الترجمة 4572، عبيدة بن عمرو 7/76.
(30) المصدر نفسه 7/76.
(31) صحيح البخاري ـ كتاب فضائل أصحاب النبي (ص)، مناقب علي، الحديث 226، 3/81.
(32) فتح الباري ـ باب مناقب علي بن أبي طالب ـ 3707 ـ 7/73. وانظر عمدة القاري ـ باب مناقب علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ج16، الترجمة 203ـ8/218 وارشاد الساري ـ كتاب النكاح، باب نكاح المتعة 6/118.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *