المقدمة الثالثة

المقدمة الثالثة ( في دفع الإشكال على الميرزا )
والغرض منها دفع ما يرد على الميرزا بناءً على مبنى الترتب وذلك:
إنه في الواجب المضيّق يعتبر وجود الحكم قبل زمان امتثاله، فوجوب الصّوم لابدّ من تحقّقه قبل طلوع الفجر، لأنه لو لم يكن الخطاب متقدّماً على الإمساك في أول الفجر آناًمّا، فإمّا أن يكون المكلّف حين توجّه الخطاب إليه أوّل الفجر متلبّساً بالإمساك أو غير متلبّس به، وعلى كلا التقديرين يستحيل توجّهه إليه، لأن طلب الإمساك ممّن هو متحقّق منه طلب للحاصل، كما أنّ طلبه من المتلبس بعدمه طلب للجمع بين النقيضين، وكلاهما محال. فلابدّ من تقدّم الخطاب ـ ولو بآن مّا ـ على زمان الإمتثال والإنبعاث، ليكون الإنبعاث عن ذلك الخطاب المقدّم عليه وامتثالاً له… فتكون النتيجة في بحثنا: إن وجوب المهم لابدّ من حصوله قبل امتثال الأمر بالمهم، لكن امتثال الأمر بالمهم في مرتبة واحدة مع عصيان الأمر الأهمّ، فوجود الأمر بالمهم لابدّ وأنّ يكون في رتبة قبل عصيان الأهم.
وتوضيح أساس هذا الإشكال هو:
إن البعث لابدّ وأن يكون مقدّماً على الإنبعاث، والأمر لابدّ من تقدّمه على الإمتثال، والدليل على ذلك أمران: أحدهما: إن منشأ الامتثال وموجب الانبعاث هو تصوّر ما يترتّب على مخالفته ثم التصديق بما تصوّره، فهنالك يحصل الامتثال، ولولا تقدّم الأمر على الامتثال كيف تتحقّق هذه القضايا ؟ إذن: لابدّ من تقدّم الأمر على الامتثال زماناً… وقد اعتمد على هذا البيان المحقق الخراساني.
والثاني: لو كان الأمر مقارناً في الزمان للامتثال ولم يكن قبله، فالمكلّف إمّا تارك وإمّا فاعل، فإن كان فاعلاً ـ كما في مثال الإمساك ـ كان الأمر طلباً للحاصل، وإن كان تاركاً، كان طلباً للفعل في آن الترك، وهو طلب النقيض مع وجود النقيض له، فهو طلب اجتماع النقيضين.
فتلخّص: ضرورة تقدّم الأمر زماناً على الانبعاث.
ونتيجة ذلك:
أولاً: إذا كان الأمر متقدّماً زماناً على الانبعاث، كان زمان الوجوب مقدّماً على زمان الواجب، فيلزم الإلتزام بالواجب المعلّق. والحال أنّ الميرزا ينكر الواجب المعلّق.
وثانياً: إن امتثال الأمر بالمهم متأخّر عن الأمر بالمهم، وعصيان الأمر الأهم هو في آن امتثال الأمر بالمهم ـ لأن عصيان الأهم يتحقق بامتثال المهم، فهو يعصي الأمر بالإزالة بالإتيان بالصّلاة ـ وإذا كان كذلك، لزم الالتزام بالشرط المتأخّر، والميرزا ينكر الشرط المتأخّر.
وتلخّص: إن على الميرزا أنْ يرفع اليد، إمّا عن الترتب وإمّا عن إنكار الواجب المعلّق والشرط المتأخّر.
جواب الميرزا
وقد أجاب الميرزا عن الإشكال بوجوه:
أولاً: بالنقض، فقال: لو صحّ ذلك لصحّ في نظيره، أعني به العلّة والمعلول التكوينيين، بتقريب إن المعلول لو كان موجوداً حين علّته لزم عليّتها للحاصل، وإلاّ لزم كونها علةً للمستحيل، لأن تأثير العلّة في الشيء في ظرف عدمه اجتماع للنقيضين، وكلاهما مستحيل، فالقول بلزوم تقدّم الخطاب على الامتثال زماناً يستلزم القول بلزوم تقدّم العلّة التكوينية على معلولها زماناً أيضاً، وهو واضح البطلان.
وثانياً: بالحلّ في المقامين: فإن المعلول أو الامتثال، إنْ كان مفروض الوجود في نفسه حين وجود العلّة أو الخطاب فيلزم ما ذكر من المحذور، وأمّا إنْ كان فرض وجوده لا مع قطع النظر عنهما، بل لفرض وجود علّته أو لتحريك الخطاب إليه، فلا يلزم من المقارنة الزمانيّة محذور أصلاً. وبالجملة: الامتثال بالإضافة إلى الخطاب كالمعلول بالإضافة إلى علّته، فلا مانع من مقارنته إيّاه زماناً، فلا موجب لفرض وجود الخطاب قبلاً ولو آناًمّا.
هذا، وقد نصّ السيد الخوئي على متانة هذا الجواب.
وثالثاً: إن المكلّف إن كان عالماً قبل الفجر بوجوب الإمساك عليه عند الفجر، كفى ذلك في إمكان تحقق الإمتثال منه حين الفجر، فوجوده قبله لغو محض، إذ المحرّك له حينئذ هو الخطاب المقارن لتحقق متعلّقه، لا الخطاب المفروض وجوده قبله، إذ لا يترتب عليه أثر في تحقق الإمتثال أصلاً. وأمّا إذا لم يكن المكلّف عالماً به قبل الفجر، فوجود الخطاب في نفس الأمر لا أثر له في تحقق الامتثال في ظرف العلم، فيكون وجوده لغواً أيضاً. ولأجل ما ذكرناه ـ من عدم كفاية وجود التكليف واقعاً في تحقق الامتثال من المكلّف في ظرفه، بل لابدّ فيه من وصول التكليف إليه ـ ذهبنا إلى وجوب تعلّم الأحكام قبل حصول شرائطها الدخيلة في فعليّتها، فالقائل بلزوم تقدّم الخطاب على الامتثال قد التبس عليه لزوم تقدّم العلم على الامتثال بلزوم تقدّم الخطاب عليه.
رابعاً: إن تقدّم الخطاب على الامتثال ـ ولو آنامّا ـ يستلزم فعليّة الخطاب قبل وجود شرطه، فلابدّ من الالتزام بالواجب المعلّق، وكون الفعل المقيّد بالزمان المتأخّر متعلّقاً للخطاب المتقدّم. وقد عرفت استحالته في محلّه.
خامساً: النقض بالواجبات الموسّعة، فإنه لا إشكال في صحّة العبادات الموسّعة كالصّلاة مثلاً إذا وقعت في أول وقتها تحقيقاً. والقول بلزوم تقدّم الخطاب على زمان الامتثال آناًمّا في المضيّقات، يستلزم القول بلزوم تقدّمه عليه في الموسّعات أيضاً، إذ لا فرق في لزوم ذلك بين وجوب مقارنة الامتثال لأوّل الوقت كما في المضيّقات وجوازها كما في الموسّعات، مع أنهم لا يقولون بلزوم التقدّم فيها، فيكشف ذلك عن بطلان الإلتزام به في المضيّقات أيضاً.
( قال ) والغرض من هذه المقدمة وإبطال القول بلزوم التقدّم المزبور هو: إثبات أن زمان شرط الأمر بالأهمّ وزمان فعليّة خطابه وزمان امتثاله أو عصيانه ـ الذي هو شرط الأمر بالمهم ـ كلّها متّحدة، كما أنه الشأن في ذلك بالقياس إلى الأمر بالمهمّ وشرط فعليّته وامتثاله أو عصيانه، ولا تقدّم ولا تأخّر في جميع ما تقدّم بالزمان، بل التقدّم والتأخر بينها في الرتبة. وعليه يتفرّع دفع جملة من الإشكالات.
اشكال المحقق الإصفهاني
وقد أشكل عليه المحقق الإصفهاني(1): بأنّ ترتّب السقوط على فعليّة التكليف وتوجّهه لا يعقل أن يكون بالرتبة، لمناقضة الثبوت السقوط، وأن الإطاعة ليست علةً للسقوط وكذلك المعصية، وإلاّ لزم عليّة الشيء لعدم نفسه في الأولى وتوقف تأثير الشيء على تأثيره في الثانية، بل بالإطاعة ينتهي أمد اقتضاء الأمر، وبالمعصية في الجزء الأول من الزمان يسقط الباقي عن القابليّة للفعل، فلا يبقى مجال لتأثيره فيسقط بسقوط علّته الباعثة على جعله.
دفاع الأُستاذ
وقد دفع الأُستاذ هذا الإشكال: بأنّا لم نجد في كلام الميرزا ما يفيد أنّ ثبوت الأمر متقدّم رتبةً على السقوط، نعم، قال: ثبوته متقدّم رتبةً على عصيانه، ومن الواضح أنّ العصيان غير السقوط، لأن الأمر حال العصيان موجود وهو متقدّم عليه رتبةً كما ذكر، أمّا سقوطه فهو بعد العصيان.

(1) نهاية الدراية 2 / 213 ـ 215.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *