ثمرة القول بوجوب المقدّمة

ثمرة القول بوجوب المقدّمة

ذكر في الكفاية وغيرها(1) ثمرات للبحث عن وجوب المقدّمة:
( منها ) إنّ نتيجة البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته هي الوجوب الشرعي للمقدّمة بناءً على ثبوتها، قال المحقّق الخراساني رحمه اللّه: لو قيل بالملازمة في المسألة فإنّه بضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمةً لواجب يستنتج أنّه واجب.
يعني: إذا علمنا مثلاً: أنّ الوضوء مقدّمة لواجب، فجعلنا ذلك مقدّمةً للكبرى الأُصوليّة بأنّ: كلّ ما هو مقدّمة لواجب فإنّه يلزم وجوب المقدّمة من وجوب ذي المقدّمة، ويستنتج من هذا القياس وجوب الوضوء، أمّا بناءً على عدم ثبوت الكبرى الأُصوليّة المذكورة، فلا تتم هذه النتيجة ويبقى اللاّبدّية العقليّة.
وفي المحاضرات: إنّ ما ذكر لا يصلح لأن يكون ثمرةً فقهية للمسألة الأُصوليّة، لعدم ترتّب أثر عملي بعد حكم العقل بلابدّية الإتيان بالمقدّمة.
فأجاب الأُستاذ: بأنّه يكفي لتحقّق الثمرة الفقهيّة جواز فتوى الفقيه بوجوب الوضوء في المثال، فكان للقياس المزبور هذا الأثر الفقهي العملي لبعض المكلّفين وهم الفقهاء.
( ومنها ) إنّ المقدّمة إذا كانت عبادةً، فعلى القول بوجوبها فإنّه يؤتى بها بقصد التقرّب، وإلاّ فلا كما هو واضح.
وفي المحاضرات: إنّ عباديّة المقدّمة لا تتوقّف على وجوبها، فإنّ منشأ العباديّة لها أحد أمرين، إمّا الإتيان بها بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي وامتثال الأمر المتعلّق به، وإمّا الإتيان بها بداعي الأمر النفسي المتعلّق بها كما في الطهارات الثلاث، فالوجوب الغيري لا يكون منشأ لعباديّتها أصلاً.
فأجاب الأُستاذ: بأنه اشكال مبنائي، ولا يعتبر في الثمرة أن تكون مترتّبةً على جميع المباني، فعلى القول بأنّ العمل بداعي الأمر الغيري غير مقرّب بل العباديّة إنّما تحصل بأحد الأمرين المذكورين، فلا ثمرة. أمّا على القول بأنّ الإتيان به مضافاً إلى المولى كاف للعباديّة والمقربيّة، فإنّ الإتيان به بداعي الأمر الغيري يكون مقرّباً وتترتّب الثمرة.
( ومنها ) إنه إنْ كانت المقدّمة واجبةً بالوجوب الشرعي، كانت موضوعاً للبحث عن أخذ الأُجرة على الواجبات، وإلاّ فلا مانع من ذلك.
قال في المحاضرات: وفيه أوّلاً: إنّ الوجوب ـ بما هو وجوب ـ لا يكون مانعاً من أخذ الأُجرة على الواجب، إلاّ إذا قام دليل على لزوم الإتيان به مجّاناً كدفن الميّت، وإذ لا دليل على لزوم الإتيان بالمقدّمة مجّاناً، فلا مانع من أخذ الأُجرة عليها وإنْ قلنا بوجوبها. وثانياً: إنّه لا ملازمة بين وجوب شيء وعدم جواز أخذ الأُجرة عليه، بل النسبة بينهما عموم من وجه، فقد يكون العمل واجباً وأخذ الأُجرة عليه جائز كما لو كان واجباً توصلياً، وقد يكون غير واجب ولا يجوز أخذ الأُجرة عليه كالأذان، فإنْ كان واجباً عبادياً حرم أخذ الأُجرة عليه على القول بالحرمة… إذن، لابدّ من التفصيل في هذه الثمرة.
قال الأُستاذ: إنّه يكفي ترتّب الثمرة على بعض الأقوال في المسألة، فعلى القول بأنّ كل واجب فهو للّه، وما كان للّه فلا تؤخذ الأُجرة عليه ـ لأن وجوب العمل على العبد مناف لملكيّة العبد لعمله ـ فالثمرة مترتّبة.
( ومنها ) برّ النذر بالإتيان بالمقدّمة على القول بوجوبها لو نذر الإتيان بفعل واجب، وعدم حصول البرّ بذلك على القول بعدم وجوبها.
وقد أشكل في الكفاية والمحاضرات وغيرهما على هذه الثمرة: بأنّ الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر، فإن كان قاصداً من لفظ « الواجب » خصوص الواجب النفسي، لم يكف الإتيان بالمقدّمة، لأن وجوبها غيري على القول بوجوبها، وإن كان قاصداً منه ما يلزم الإتيان به ولو بحكم العقل، وجب الإتيان بالمقدّمة، حتّى على القول بعدم وجوبها شرعاً. نعم لو قصد من الوجوب الأعم من النفسي والغيري، حصل البرّ بإتيان المقدّمة على القول بوجوبها دون القول بعدم وجوبها.
( ومنها ) إنّه بناءً على وجوب المقدّمة شرعاً، فقد يكون لواجب نفسي مقدّمات كثيرة، وحينئذ، فلو ترك الواجب النفسي مع مقدّماته حكم بفسقه، أمّا بناءً على عدم وجوبها فلا، لأنّه لم يفوّت إلاّ واجباً واحداً وهو النفسي ذو المقدّمة، ولا يصدق عنوان الإصرار على المعصية بذلك إلاّ إذا كان ترك ذي المقدّمة كبيرةً من الكبائر.
وأشكل في المحاضرات بما حاصله: ترتّب الثمرة على بعض المباني في معنى « العدالة » وفي معنى « الإصرار على الصغيرة » على مسلك التفصيل بين الصغيرة والكبيرة.
قال: ولو تنزّلنا عن جميع ذلك، فإنّه لا معصية في ترك المقدّمة بما هي مقدّمة حتى على القول بوجوبها كي يحصل الإصرار على المعصيّة، لأنّ ما يحقّق عنوان المعصية هو مخالفة الأمر النفسي، وأمّا مخالفة الأمر الغيري فلا تحقّق بها المعصية.
وقد أورد عليه الأُستاذ:
أوّلاً: بكفاية ترتّب الثمرة على بعض المباني، كما تقدّم.
وثانياً: إن عنوان « المعصية » يتحقّق بمخالفة الأمر، سواء كان نفسيّاً أو غيريّاً….
وثالثاً: إن قيل إنّ عنوان « الإصرار » على المعصية يتحقّق بكثرة المخالفة كما يتحقّق بتكرّر المخالفة للحكم الواحد، فإنّه يتحقّق فيما نحن فيه بترك جميع المقدّمات.
( ومنها ) إنّ المقدّمة إن كانت محرّمة، فعلى القول بوجوب المقدّمة شرعاً يلزم اجتماع الأمر والنهي فيها، وعلى القول بعدم وجوبها فلا يلزم.
أجاب في الكفاية
أوّلاً: إنّ المقدّمة المحرّمة على قسمين، منحصرة وغير منحصرة، فإن كانت منحصرةً فلا يلزم الاجتماع، بل يترجّح أحد الأمرين ـ الوجوب والحرمة ـ على الآخر. وإن كانت غير منحصرة، فإنّ مصب الوجوب ـ على القول به في بحث مقدّمة الواجب ـ هو المقدّمة المباحة، لأنّ الحاكم بوجوب المقدّمة هو العقل، عن طريق الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة، وهو لا يرى الملازمة إلاّ بين الواجب ومقدّمته المباحة، فلا تكون المحرّمة محلّ الاجتماع.
فأشكل في المحاضرات في صورة عدم الانحصار: بعدم الدليل على اعتبار إباحة المقدّمة، لأنّ الملاك في المقدّمية توقف ذي المقدّمة الواجب على المقدّمة، وكما أنّ المقدّمة المباحة واجدة لهذا الملاك فكذلك المقدّمة المحرمة، ومجرّد انطباق عنوان المحرّم عليها لا يخرجها عن واجديّتها للملاك… فتكون محلاًّ للاجتماع.
وأجاب الأُستاذ دام ظلّه: بأنّ وجوب المقدّمة شرعاً ـ على القول به ـ إنّما اكتشف عن طريق حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة شرعاً ووجوب المقدّمة، فالعقل لا يرى انفكاكاً بين مطلوبيّة ذي المقدّمة ومطلوبيّة المقدّمة، لكنّ هذه المطلوبيّة من أوّل الأمر إنّما تكون بين ذي المقدّمة ومقدّمته المباحة لا مقدّمته المبغوضة للمولى، فهو لا يرى الملازمة إذا كانت مبغوضة له، وعليه، فإنّ الوجوب يتوجّه إلى المقدّمة المباحة، فلا يلزم الاجتماع.
وثانياً: إنّه ليس المورد من قبيل اجتماع الأمر والنهي، بل من قبيل النهي عن العبادة، لأنّ موضوع الوجوب هو « ذات المقدّمة » كالوضوء، وموضوع الحرمة هو « الغصب »، فتعلّق الأمر والنهي بما هو مصداق فعلاً للمقدّمة، فيكون من مسائل النهي عن العبادة.
والجواب: صحيح أنّ عنوان « المقدّمة » خارج عن متعلّق الأمر، إلاّ أنّ الأمر قد تعلّق بطبيعي الوضوء الجامع بين الفردين الحلال والحرام، والنهي قد تعلّق بخصوص الفرد المغصوب، فكان متعلّق الأمر غير متعلّق النهي، ثمّ انطبقا على هذا الوضوء الغصبي فكان مجمعاً لهما.
وثالثاً: إنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل بها إلى ذي المقدّمة الواجب بالوجوب النفسي، وهي لا تخلو إمّا أن تكون توصليّة أو تعبديّة، فإن كانت توصليّة فهي توصل إلى ذي المقدّمة وإن كانت محرّمةً، كالحج على الدابّة المغصوبة، وإن كانت تعبديّة ـ كالوضوء مثلاً ـ وقع البحث في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه، فإنْ قلنا بالجواز صحّت العبادة سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل، وإن قلنا بالعدم وتقديم جانب النهي بطلت سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل، فلا ثمرة للبحث.
وفيه:
إنّه بناءً على عدم الفرق في المقربيّة بين الواجب النفسي والواجب الغيري، فإنّ المقدّمة إن كانت تعبّدية فإنّه يعتبر فيها قصد القربة، فإنْ اتّفق كونها محرمةً كالوضوء الغصبي امتنع التقرّب بها إلاّ على القول بوجوب المقدّمة، بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي، فالثمرة مترتبة.

(1) كفاية الأُصول: 123، محاضرات في أُصول الفقه 2 / 266.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *