الوجه الثاني

الثاني
وقوع الأمر بالمقدّمة في القضايا التكوينيّة كقوله: ادخل السوق واشتر اللحم، وفي القضايا الشرعيّة كما في الخبر: « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه… »(1)والأصل في الاستعمال هو الحقيقة، والأمر ظاهر في الوجوب. وهذا الوجوب الثابت للمقدّمة غيري بالإستقراء، لأنّ الوجوب إمّا إرشادي وإمّا مولوي طريقي وإمّا مولوي نفسي وإمّا غيري. أمّا الإرشادي، فهو إرشاد إلى حكم العقل في المورد كما في ( أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ… )(2) فهنا يوجد الحكم العقلي ولا يمكن أن يكون الأمر بالإطاعة حكماً شرعيّاً مولوياً، فيحمل على الإرشادية، لكنْ ليس في مقامنا حكم من العقل، فهو لا يقول بلزوم الإتيان بالمقدّمة، بل يقول بلابدّيته وهو غير اللزوم والوجوب، وأيضاً، ففيما نحن فيه يمكن الحكم المولوي.
وأمّا المولوي الطريقي، فلا معنى له هنا، إذ الحكم المولوي الطريقي ما يجعل للتحفّظ على الواقع، وفيما نحن فيه لا جهل بالواقع حتّى يجعل حكم الوجوب للاحتفاظ عليه.
وأمّا المولوي النفسي، فالمفروض أنّ بحثنا في المقدّمة.
فانحصر كون الوجوب هنا غيريّاً… فيكون الأمر بغسل الثوب واجباً غيريّاً.
والجواب:
وقد أجاب الأكابر عن هذا الاستدلال: بأنّ هناك شقّاً آخر وهو: الإرشاديّة إلى الشرطيّة، بأن يكون الأمر بغسل الثوب إرشاداً إلى شرطيّة الطهارة من الخبث في صحّة الصّلاة.
قال الأُستاذ
وهذا الجواب الذي ارتضاه في المحاضرات أيضاً(3)، إنّما يتمّ فيما إذا كان الشيء شرطاً، كاشتراط الصّلاة بطهارة اللباس، وبالطهارة من الحدث كما في ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا… )(4)، أمّا في مثل: إذهب إلى السوق واشتر اللحم، فليس دخول السّوق شرطاً ولا مقدّمةً لشراء اللحم، وإنّما هو مقدّمة وجوديّة.
وكذا الحمل على الارشاد إلى المقدميّة، ففيه: إنّه من الواضح في مثل: ادخل السّوق واشتر اللحم، كون الدخول مقدمةً للشراء، ولا حاجة إلى التنبيه والإرشاد إليه.
( قال ) والذي يمكن أن يقال في الجواب: إنّ لابدّية الإتيان بمتعلّق الأمر هي لترتّب ذي المقدّمة عليه، وهذه الخصوصيّة تمنع من انعقاد الظهور العرفي للأوامر الشرعيّة المتعلّقة بالمقدّمات في الطلب المولوي.
لا يقال: إنّه بعد ثبوت حكم العقل بلابديّة المقدّمة، من باب الملازمة العقلية بين المقدمة وذيها، يكون المقام من صغريات قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، فيتم الحكم الشرعي، أعني وجوب المقدّمة شرعاً.
لأنّ الأصحاب قد نفوا الوجوب الشرعي هنا مع قولهم بقانون الملازمة. وبيان ذلك بحيث يكون نافعاً في سائر الموارد هو:
إن العقل، سواء قلنا بأنه حاكم أو مدرك فقط، إنما يحرّك المكلّف ويحمله على امتثال حكم المولى حتى يخرج عن عهدة التكليف، فيما إذا لم يكن قبله حكم من الشرع، لأنّ حكم الشرع السابق على حكم العقل يكون كافياً لداعويّة العبد، وفي مثل هذه الحالة لا أثر للحكم العقلي ليكون مورداً لقاعدة الملازمة، على أنّه يستلزم التسلسل، لأنّ الحكم العقلي لو استتبع حكماً شرعيّاً، كان الحكم الشرعي موضوعاً لوجوب الإطاعة عقلاً، ووجوب الإطاعة لو استتبع حكماً شرعيّاً، كان موضوعاً لوجوب الإطاعة كذلك، وهكذا فيتسلسل. ومن هنا قالوا: الأحكام العقليّة التي هي في طول الأحكام الشرعيّة ليست مورداً لقاعدة كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.
بل الأحكام العقليّة التي هي مورد القاعدة هي الأحكام العقليّة الواقعة في سلسلة علل الأحكام الشرعيّة، بمعنى أنّ العقل إذا أدرك المصلحة الملزمة غير المزاحمة بالمفسدة، أو المفسدة الملزمة غير المزاحمة بالمصلحة، فإنّ تلك المصلحة أو المفسدة تكون علّةً للوجوب أو الحرمة، لكون الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد، فمثل هذه الأحكام تكون مورداً للقاعدة.
والحاصل: إنّ الأحكام العقليّة على قسمين، فما كان منها في طول الأحكام الشرعيّة فلا يكون مورداً للقاعدة، وما كان منها في سلسلة العلل لها فهي مورد للقاعدة.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ مورد بحثنا خارج خروجاً موضوعيّاً عن مورد القاعدة، لأنّه ليس في مقامنا إلاّ درك العقل التلازم في الإرادة والاشتياق بين المقدّمة وذي المقدّمة، وهذا التلازم أمر تكويني وليس وظيفةً للعبد، فالعقل يرى هذه اللاّبدّية لكن لا بعنوان كونها وظيفةً من وظائف العبوديّة….
وتلخّص: عدم تماميّة القول بالوجوب الشرعي للمقدّمة عن طريق قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

(1) وسائل الشيعة 3 / 405 الباب 8 من أبواب النجاسات.
(2) سورة النساء: 59.
(3) محاضرات في أُصول الفقه 2 / 280.
(4) سورة المائدة: 6.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *