المقام الثالث: في مقتضى الأُصول العملية

المقام الثالث
فإنّه ـ بعد الفراغ عن مرحلة الثبوت، وعن البحث الإثباتي ـ هل يجري استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب أو لا ؟
إن المستصحب تارة شخصي وأُخرى كلّي، وقد ذكروا للكلّي أقساماً:
أحدها: الكلّي الموجود في الفرد المشكوك بقاؤه، فيصح استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد.
الثاني: أن يكون الفرد مردّداً بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، وهذا هو القسم الثاني من أقسام الكلّي.
والثالث: أن يكون الفرد معيّناً، وهو زائل يقيناً، لكن يحتمل وجود فرد آخر للكلّي مع ذاك الفرد. وهذا هو القسم الأوّل من القسم الثالث.
والرابع: أن يكون الفرد معيّناً، وهو زائل يقيناً، لكن يحتمل حدوث فرد آخر للكلّي مقارناً لزوال ذاك الفرد. وهذا هو القسم الثاني من القسم الثالث.
والخامس: أن يكون المتيّقن حقيقة واحدة لكن ذا مراتب، فيقطع بزوال مرتبة ويشك بذلك في بقاء الحقيقة وعدم بقائها.
فهذه مقدمة.
ومقدمة أُخرى: إنه يعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة، وحدةً عرفيّة لا عقلية.
وبعد المقدمتين، نذكر أوّلاً كلام المحقق الخراساني في هذا المقام; قال:
« ولا مجال لاستصحاب الجواز إلاّبناءً على جريانه في القسم الثالث من أقسام الكلّي، وهو ما، إذا شك في حدوث فرد كلّي مقارناً لارتفاع الحادث الآخر، وقد حقّقنا في محله أنه لا يجري الاستصحاب فيه ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة المتّصلة بالمرتفع، بحيث يعدّ عرفاً ـ لو كان ـ أنه باق، لا أنه أمر حادث غيره. ومن المعلوم أن كلّ واحد من الأحكام مع الآخر ـ عقلاً وعرفاً ـ من المتباينات والمتضادّات، غير الوجوب والاستحباب، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدّة والضعف عقلاً، إلاّ أنهما متباينان عرفاً، فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر، فإن حكم العرف ونظره يكون متّبعاً في هذا الباب »(1).
وحاصل كلامه:
1 ـ إن المورد من قبيل القسم الثالث من أقسام الكلّي، ولا يجري فيه الاستصحاب، إلاّ إذا كان الباقي من مراتب الزائل، كما في الشدّة والضّعف مثلاً.
2 ـ إن الأحكام الخمسة متباينات عقلاً وعرفاً، إلاّ في الوجوب والاستحباب، فإنهما متباينان عرفاً ومختلفان في المرتبة عقلاً، فإذا ارتفع الوجوب لا يصح القول ببقاء الإستحباب من باب الاستصحاب، للتباين العرفي بينهما، إذ الملاك في الاستصحاب هو الوحدة العرفيّة في موضوع القضيّتين.
قال الأُستاذ
والتحقيق هو النظر في المسألة على ضوء المباني(2) في حقيقة الوجوب:
فإن قلنا: بأنه مركّب من البعث إلى الفعل مع المنع من الترك تركيباً انضماميّاً، فإنه إذا نسخ الوجوب وشك في أنّ الزائل هو الجزآن أو خصوص المنع من الترك، كان هذا الجزء مقطوع الزوال والآخر ـ وهو البعث إلى الفعل ـ مشكوك فيه، وعليه فلا إشكال في جريان الإستصحاب، وهو استصحاب فرد واحد شخصي.
وبعبارة أُخرى: الزائل مردّد بين الأقل والأكثر، وقد كان زوال الأقل متيقّناً، وزوال الأكثر مشكوك فيه، فيستصحب.
وإن قلنا: بأن الوجوب بسيط لا مركّب، فهنا لا يتصوّر إلاّ القسم الثاني من القسم الثالث من استصحاب الكلّي الذي اتّفقوا على عدم جريانه.
وإن قلنا: بمسلك المحقق العراقي، كان المورد ـ على تقدير ـ من قبيل القسم الأخير من أقسام الكلّي، وهو كون المستصحب ذا مراتب، ومن قبيل القسم الأوّل على تقدير آخر. وتوضيحه: إنّه قد استثنى الشيخ الأعظم من أقسام الكلّي ما لو كان الفرد الموجود مرتبةً شديدةً، ثم علم بزوال الشدّة وشكّ في بقاء أصل المرتبة، فقال بجريان الإستصحاب فيه. وقال المتأخّرون عنه بأن هذا من القسم الأوّل لا من أقسام الكلّي، لأن الشدّة إن كانت من المقوّمات لم يجر الاستصحاب لكونه من القسم الثالث، وإن كانت من الحالات جرى لبقاء الحقيقة، كالعدالة الموجودة بالمرتبة العالية ثم حصل اليقين بزوال تلك المرتبة، فإنه تستصحب العدالة، لكون تلك المرتبة من الحالات لا المقوّمات، فيكون ـ على هذا ـ من القسم الأوّل.
فبناءً على أن حقيقة الوجوب هي الإرادة، يكون أصل الإرادة هو المشكوك فيه بعد زوال الحدّ، فيستصحب بقاؤها، ولذا قال المحقق العراقي هنا بجريان الاستصحاب، كما لا أنه لا يرى التباين العرفي بين الإستحباب والوجوب خلافاً لصاحب الكفاية.
وأمّا إن قلنا بالتركيب الإتّحادي، فإنّه مع زوال الفصل لا يعقل بقاء الجنس، فلا مجال للإستصحاب، وما أفاده المحقق الإصفهاني قدّس سرّه ـ من أنه مع انعدام الفصل ينعدم الجنس بما هو جنس، لكنّه بما هو متفصّل بفصل عدمي يكون باقياً، فلو قطعت « الشجرة » ينعدم « النامي » فالجهة الجنسيّة وهي حيثية استعداد الشجر للنمو منعدمة، إلاّ أن تلك الجهة تبقى مع الفصل العدمي، أي: فإن مادّة الشجر وهي الخشب موجودة مع عدم الاستعداد للنموّ، فعلى القول بتركّب حقيقة الوجوب يكون الجواز باقياً ـ بعد نسخ الوجوب ـ لكن مع الحيث العدمي، أي الجواز مع عدم المنع من الترك ـ فقد عَدَل عنه في تعليقته، ونصّ على عدم معقوليّته، قال: « لأن التركّب الحقيقي من جنس وفصل خارجيين، لا يتصوّر إلاّ في الأنواع الجوهريّة دون الأعراض التي هي بسائط خارجية، فضلاً عن الإعتبارات »(3).
مختار الأُستاذ
قال الأُستاذ: إنه إن كان الوجوب هو الإرادة، وكانت الشدّة والضعف من الحالات، جرى الإستصحاب بلا إشكال، لكنّ الكلام في المبنى، فإنّ الحق هو بساطة الوجوب، وأنه غير الإرادة، لكونها من التكوينيّات، بل هو إمّا من الأُمور الاعتباريّة وإمّا من الإنتزاعيّات، فلا يجري فيه الإستصحاب، لكونه من قبيل القسم الثاني من قسمي الثالث من أقسام الكلّي.
نظريّة السيد الحكيم في الاستصحاب
وقال السيد الحكيم ـ معلّقاً على قول ( الكفاية ): فلا مجال للإستصحاب ـ ما نصّه:
« يكفي في إثبات الجواز استصحاب الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه، إذ لو ثبت الرّضا به بعد ارتفاع الوجوب لا يكون وجوداً آخر للرضا، بل يكون الرضا الأوّل باقياً، وإذا ثبت الرضا به ـ ولو بالإستصحاب ـ كان جائزاً عقلاً، لأنّ الأحكام التكليفيّة إنما تكون موضوعاً للعمل في نظر العقل بمناط حكايتها عن الإرادة والكراهة والرضا لا بما هي هي، ويكفي في إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانية، إذ مجرّد رفع الوجوب لا يدلّ على ارتفاعها، وإذا تثبت الإرادة المذكورة ثبت الاستحباب، لأنه يكفي فيه الإرادة للفعل مع الترخيص في الترك الثابت قطعاً بنسخ الوجوب »(4).
وتوضيح كلامه:
أوّلاً: إنه قد كان مع الوجوب الرضا بالفعل، وبعد النسخ يبقى الرّضا السّابق بالإستصحاب. لا يقال: الرضا ليس من المجعولات الشرعيّة كي يجري فيه الاستصحاب. لأن الوجوب ـ كغيره من الأحكام التكليفيّة ـ إنما يكون موضوعاً للعمل في نظر العقل بمناط حكايته عن إرادة المولى، فكلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، وهذا روح الحكم في نظر العقل.
وثانياً: إنه مع بقاء الرضا السابق يتمّ الجواز العقلي.
وثالثاً: إنه يكفي في إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانيّة.
وبناءً على ما ذكر، فإنه مع بساطة الوجوب يكون رضا المولى متحقّقاً، فإذا نسخ الوجوب استصحب الرضا، ويترتّب عليه الأثر، وهو حكم العقل بلزوم العمل اتّباعاً لإرادة المولى ورضاه، ويفتى بالإستحباب.
أقول:
العمدة في هذه النظريّة، هي أنه قد أجرى الإستصحاب في الإرادة التي هي منشأ الوجوب، فأثبت بها موضوع حكم العقل، بخلاف المحقق العراقي، حيث أجراه في نفس الوجوب وجعله بمعنى الإرادة، فلا يرد على هذه النظريّة ما ورد على المحقّق المذكور.
لكنّ التأمّل فيها هو: أنّ الوجوب ـ على كلّ حال ـ إمّا بسيط وإمّا مركّب، وظاهر الكلام أوفق بالثّاني، فإن أراد التركيب الإنضمامي بأنْ يكون الوجوب مركّباً بالانضمام من الرضا بالفعل مع المنع من الترك، فقد عرفت تماميّة الإستصحاب بناءً عليه، وإن أراد الإتحادي، فقد عرفت ما فيه. وأمّا على القول بالبساطة، فما هو المراد من قوله « الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه » ؟ الظاهر أن « الرضا » حالة نفسانيّة خارجة عن الوجوب لازمة له، فإذا زال الوجوب زال الرّضا بتبعه، فلا يبقى شيء لكي يستصحب.
وهذا تمام الكلام في النسخ.

(1) كفاية الأُصول: 140.
(2) تقدّم ذكرها في المقام الأول.
(3) نهاية الدراية 2 / 263.
(4) حقائق الأُصول 1 / 331.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *