الاستحسان

الاستحسان
ولذه الأُمور أيضاً التجأ بعضهم الى الاستحسان.
فابن رشد ينص على ظهور الآية في المسح، وينصّ على أنّ حديث « ويلٌ… » في المسح أظهر منه في الغسل… فيقول بالغسل استحساناً، وهذه عبارته:
« فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح، كما أنّ المسح أشدّ مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالباً إلاّ بالغسل، وينقى دنس الرأس بالغسل، وذلك أيضاً غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسباباً للعبادات المفروضة، حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين: معنى مصلحياً، ومعنى عبادياً. وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس »(1).
والنسفي يقول: « وانّما أمر بغسل هذه الأعضاء لتطهّرها من الأوساخ التي تتّصل بها، لأنها تبدو كثيراً، والصلاة خدمة الله تعالى والقيام بين يديه متطهّراً من الأوساخ أقرب إلى التعظيم، فكان أكمل في الخدمة… »(2).
ومحمّد رشيد رضا يقول: « إنّ القول بكل من الغسل والمسح مروي عن السلف من الصحابة والتابعين، ولكن العمل بالغسل أعم وأكثر، وهو الذي غلب واستمر » ويقول: « لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة بل هو خلاف حكمة الوضوء، لأنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه الوسخ يزيد وساخته، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة »(3).
أقول:
إن كان المراد وجوب تطهير الأرجل من الدنس ـ أي النجاسة ـ بالغسل، فهذا ممّا لا كلام ولا خلاف، وله نصوص خاصّة معتبرة متفق عليها. وإن كان المراد وجوب تطهيرها من الغبار والأوساخ، فهذا ممّا لا دليل عليه، إذ لا يفتي أحد ببطلان صلاة من كانت رجله وسخة سواء قلنا بوجوب المسح أو الغسل، ولذا لم يقيَّد الغسل في كلمات القائلين بوجوب الغسل بكونه مزيلا للأوساخ، على أنّ عمومات الحث على النظافة، وكذا العمومات الواردة في كون المصلّي متجمّلا نظيفاً في بدنه ولباسه وافية بالغرض، ولذا نرى عوام الشيعة يغسلون أرجلهم ثم يتوضّأون ويمسحون عليها كما أمرهم الله ورسوله…
ثمّ إنّ من القائلين بالغسل من قال في توجيه قراءة الجرّ بأنّ فائدة ذلك التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صبّ الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح(4) وكيف يحصل الغرض وهو النقاء والنظافة بالغسل القريب من المسح؟
لكن الحامل للقوم على هذا الاستحسان ـ كأولئك الذين قالوا بالغسل من جهة الاحتياط أو غير ذلك ـ قصور الأُمور المستدل بها للغسل عن الدلالة على وجوبه، بل لقد أذعن الكبار من علمائهم السابقين واللاحقين كالفخر الرازي، والنيسابوري، والحلبي، والسندي.. وغيرهم بأنّ الأدلّة ـ وخاصة الآية المباركة ـ صريحة في المسح…
ومن المتأخرين المصرّحين بذلك: العلامة القاسمي، فإنّه قال في آخر كلامه:
« ولا يخفى أنّ ظاهر الآية صريح في أنّ واجبهما المسح كما قاله ابن عباس وغيره، وايثار غسلهما في المأثور عنه صلّى الله عليه وسلّم انّما هو للمزيد في الفرض والتوسع فيه، حسب عادته صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه سنَّ في كلّ فرض سنناً تدعمه وتقوّيه،في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وكذا في الطهارات، كما لا يخفى.
ومما يدل على أنّ واجبهما المسح تشريع المسح على الخفّين والجوربين، ولا سند له الاّ هذه الآية، لأنّ كل سنّة أصلها في كتاب الله منطوقاً أو مفهوماً. فاعرف ذلك واحتفظ به »(5).
أقول:
قد اعترف بالحق، ثمّ ادّعى أنّ المأثور عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الغسل، وقد عرفت بطلان هذه الدعوى.
« وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين »

(1) بداية المجتهد 1/16.
(2) تفسير النسفي ـ هامش الخازن ـ 2/441.
(3) المنار 6/234.
(4) تفسير البيضاوي ـ بحاشية الشهاب ـ 2/221.
(5) تفسير القاسمي 6/1894.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *