اعترافهم بدلالة الحديث على الأعلميّة

اعترافهم بدلالة الحديث على الأعلميّة
ولقد بلغت دلالة حديث مدينة العلم على أعلمية الإمام علي عليه السلام حدّاً من الظهور والوضوح حتّى صرّح بذلك جماعة من علماء أهل السنّة. ولنذكر كلمات بعضهم:
قال ابن روزبهان بجواب قول العلامة الحلي: «التاسع عشر ـ في مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سلوني إلاّ علي بن أبي طالب، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنا مدينة العلم وعلي بابها».
قال: «هذا يدل على وفور علمه واستحضاره أجوبة الوقائع، واطّلاعه على أشتات العلوم والمعارف، وكلّ هذه الأمور مسلّمة ولا دليل على النصّ، حيث أنه لا يجب أن يكون الأعلم خليفة، بل الأحفظ للحوزة والأصلح للأمّة، ولو لم يكن أبو بكر أصلح للامامة لما اختاروه كما مرّ.»
وقال المناوي بشرح حديث مدينة العلم ما نصه:
فإنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم المدينة الجامعة لمعالي الديانات كلّها، ولابدّ للمدينة من باب، فأخبر أنّ بابها هو علي كرم الله وجهه، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى.
وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمؤلف والمعادي والمخالف: أخرج الكلاباذي أنّ رجلا سأل معاوية عن مسألة فقال: سل علياً هو أعلم مني، فقال: أريد جوابك، قال: ويحك كرهت رجلا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغره بالعلم غراً. وكان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر يسأله عمّا أشكل عليه: جاءه رجل فسأله فقال: هاهنا علي فاسأله، فقال: أريد أن أسمع منك يا أمير المؤمنين، قال: قم لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان. وصحّ عنه من طريق أنه كان يتعوّذ من قوم ليس هو فيهم، حتى أمسكه عنده ولم يولّه شيئاً من البعوث لمشاورته في المشكل.
وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذكر لعطاء أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟ قال: لا والله.
وقال الحرالي: قد علم الأوّلون والآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغيّر بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه».(1)
وفيه: «أنا دار الحكمة ـ وفي رواية: أنا مدينة الحكمة ـ وعلي بابها، أي علي ابن أبي طالب هو الباب الذي يدخل منه إلى الحكمة وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها وهذه المنقبة ما أعلاها، ومن زعم أن المراد بقوله: وعلي بابها ـ أنه مرتفع من العلوّ وهو الارتفاع فقد تمحّل لغرضه الفاسد، لايجديه ولايسمنه ولايغنيه.
أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعاً: ما أنزل الله عزّ وجلّ يا أيّها الذين آمنوا إلاّ وعلي رأسها وأميرها
وأخرج عن ابن مسعود قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم: فسئل عن علي كرّم الله وجهه فقال: قسّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزء واحداً.
وعنه أيضاً: أنزل القرآن. على سبعة أحرف، ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن، وأمّا علي فعنده منه علم الظاهر والباطن.
وأخرج أيضاً: علي سيد المسلمين وإمام المتقين. وأخرج أيضاً: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. وأخرج أيضا: علي راية الهدى.
وأخرج أيضاً: يا عليً إنّ الله أمرني أن أدنيك وأعلّمك لتعي، وأنزلت عليّ هذه الآية (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
وأخرج أيضاً عن ابن عباس: كنّا نتحدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى علي كرّم الله وجهه سبعين عهداً لم يعهد إلى غيره.
والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى».(2)
وقال ابن حجر المكي: «تنبيه: ممّا يدلّ على أنّ الله سبحانه اختص عليّاً من العلم بما تقصر عنه العبارات قوله صلّى الله عليه وسلّم: أقضاكم علي، وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، وقوله: أنا دارالحكمة، في رواية أنا مدينة العلم ـ وعلي بابها».(3)
وقال ابن حجر أيضاً في الدفاع عن معاوية: «السادس: خروجه على علي كرّم الله وجهه ومحاربته له، مع أنّه الامام الحق بإجماع أهل الحل والعقد، والأفضل الأعدل الأعلم بنصّ الحديث الحسن ـ لكثرة طرقه ـ خلافا لمن زعم وضعه ولمن زعم صحته ولمن اطلق حسنه: أنا مدينة العلم وعلي بابها…(4)
وأما استلزام الأعلمية للأفضلية، فهو موضع وفاق بين العلماء والعقلاء. لأنّ العلم أشرف الفضائل وأعلى المناقب وأسنى المراتب، وإن من فاق الناس علماً كان أفضلهم وأشرفهم مقاماً وأعلاهم درجة… بل في الحديث أن تقدّم غيرالأعلم خيانة لله ورسوله:
ففي كتاب (كنز العمال) عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين. م د. عن ابن عباس».(5)
وإذا كان استعمال عامل هذا شأنه في أمر صغير خيانةً لله ورسوله وجميع المسلمين، فما ظنّك بالولاية العامة والامامة الكبرى والخلافة العظمى عن رسول الله؟!
ومن الأدلة على اقتضاء الأعلمية للامامة: الأشعار التي رويت عن واحد من الصحابة أنه قالها بعد السقيفة في مدح علي عليه السلام، وبيان أنّه صاحب الخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، دون أبي بكر بن أبي قحافة
«ما كنت أحسب أنّ الأمر منحرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أوّل من صلّى لقبلتكم *** وأعلم الناس بالآثار والسّنن
وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلّهم *** وليس في الناس ما فيه من الحسن
ما ذا الذي ردّكم عنه فنعرفه *** ها إن بيعتكم من أول الفتن»
وهذه الأبيات ذكرها الخوارزمي، ونسبها إلى «العباس بن عبدالمطلب».(6) وذكرها الأيوبي في (المختصر في أخبار البشر) إلاّ البيت الأخير منها مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ، ناسباً إيّاها إلى «عتبة بن أبي لهب»(7)، وعزاها في (الموفقيات) إلى «بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلّب» وهذا نصّ كلامه:
«روى محمد بن إسحاق: إن أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرة،قال:
وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أن علياً هو صاحبها بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال الفضل بن عباس: يا معشر قريش ـ وخصوصاً يا بني تيم ـ إنكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوة ونحن أهلها دونكم، ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا، حسداً منهم لنا وحقداً علينا، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه، وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب:
ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أوّل من صلّى لقبلتكم *** وأعلم الناس بالقرآن والسّنن
وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به *** وليس في الناس ما فيه من الحسن
ما ذا الذي ردّهم عنه فنعلمه *** ها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبن»
وعزاها الزين العراقي في (شرح الألفية) وفي (التقييد والإيضاح)، وكذا السخاوي في (فتح المغيث ـ شرح ألفية الحديث) في البحث حول أوّل من أسلم… إلى «خزيمة بن ثابت» وهذا نصّ كلام العراقي في كتابه الثاني:
«والصحيح أنّ عليّا أوّل ذكر أسلم، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه كما سيأتي، وقال ابن إسحاق في السيرة: أول من آمن خديجة ثم علي بن أبي طالب، وكان أوّل ذكر آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن عشر سنين، ثم زيد بن حارثة فكان أول ذكر أسلم بعد علي، ثم أبو بكر فأظهر إسلامه إلى آخر كلامه. وما ذكرنا أن الصحيح من أن علياً أول ذكر أسلم هو قول أكثر الصحابة: أبي ذر، وسلمان الفارسي، وخباب بن الأرت، وخزيمة بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي أيوب الأنصاري، والمقداد بن الأسود، ويعلى بن مرة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعفيف الكندي.
وأنشد أبو عبد الله المرزباني لخزيمة بن ثابت:
ما كنت أحسب هذا الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أوّل من صلّى لقبلتهم *** وأعلم الناس بالفرقان والسنن(8)
وعزاها بعضهم كالفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) والنيسابوري في تفسيره (غرائب القرآن) والبيضاوي في (تفسيره) إلى «حسّان بن ثابت».(9)
وعزاها بعضهم كأبي جعفر الإسكافي في (نقض العثمانيّة) إلى «أبي سفيان بن حرب» حيث قال في بيان أنه عليه السلام أوّل من أسلم: «وأما الأشعار المرويّة فمعروفة كثيرة منتشرة، فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيباً للوليد بن عقبة بن أبي معيط:
وإنّ وليّ الأمر بعد محمد *** علي وفي كلّ المواطن صاحبه
وصي الرسول حقاً وصنوه *** وأوّل من صلّى ومن لاذ جانبه
وقال خزيمة بن ثابت:
وصىّ رسول الله من دون أهله *** وفارسه مذ كان في سالف الزمن
وأوّل من صلّى من الناس كلّهم *** سوى خيرة النسوان والله ذو منن
وقال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أوّل من صلّى لقبلتهم *** وأعلم الناس بالأحكام والسنن
وقال أبو الأسود الدؤلي يهدّد طلحة والزبير:
وإنّ علياً لكم مصحر *** يماثله الأسد الأسود
أما إنه أوّل العابدين *** بمكّة والله لا يعبد
وقال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين:
هذا علي وابن عم المصطفى *** أوّل من أجابه فيما روى

هو الامام لا يبالي من غوى
وقال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي:
فحوطوا علياً وانصروه فإنّه *** وصي وفي الإسلام أول أول
وإن تخذلوه والحوادث جمّة *** فليس لكم عن أرضكم متحوّل
والأشعار كالأخبار، إذا امتنع في مجيء القبيلتين التواطي والاتفاق كان ورودهما حجة».
ومن غرائب الأمور: ما رووه عن عمر بن الخطاب أنّه كان يتمنّى وجود معاذ بن جبل حين موته ليستخلفه من بعده، وكان السبب في ذلك ما كان سمعه ـ على حدّ زعمه ـ من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حقّ معاذ «إن العلماء إذا اجتمعوا يوم القيامة كان معاذ بن جبل بين أيديهم».
وممّن روى ذلك: ابن سعد (الطبقات) وأحمد (المسند) وابن قتيبة (الامامة والسياسة) وأبو نعيم (الحلية) وابن حجر العسقلاني (فتح الباري) والمتقي (كنز العمال)…
قال ابن سعد: «أخبرنا يزيد بن هارون، أنا سعيد بن أبي عروبة: سمعت شهر بن حوشب يقول: قال عمر بن الخطاب: لو أدركت معاذ بن جبل فاستخلفته، فسألني عنه ربي لقلت: ربي! سمعت نبيّك يقول: إن العلماء إذا اجتمعوا يوم القيامة كان معاذ بن جبل بين أيديهم بقذفة حجر».
ومن هنا يعلم أن تقدّم الرجل في العلم كاف لاستخلافه، وأن عمر كان يرى جواز ذلك بالاستناد إلى تلك الجهة، وهذا من أقوى الشواهد على أفضليّة الأعلم وأولويّته بالخلافة والامامة، ومن ادعى خلاف هذا المعنى فقد سفّه عمر وجهّله…
هذا، مع عدم وجدان معاذ سائر الشروط المعتبرة في الامام، كالقرشيّة، وقد تقرّر أن «الأئمة من قريش…»

(1) فيض القدير 1/46 ـ 47.
(2) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 1 / 46.
(3) شرح القصيدة الهمزية: 303.
(4) تطهير الجنان ـ هامش الصواعق ـ : 74.
(5) كنز العمال 6 / 40.
(6) المناقب للخوارزمي: 8.
(7) المختصر في اخبار البشر 1 / 156.
(8) فتح المغيث 3 / 124.
(9) الرازي، النيسابوري، البيضاوي: تفسير الآية: 34 من سورة البقرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *