كلام ابن حجر

كلام ابن حجر
وقال ابن حجر: «إنّ الجمع بين القصّتين ممكن، وقد أشار إلى ذلك البزّار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصّة عليّ، وورد من روايات أهل المدينة في قصّة أبي بكر، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دلّ عليه حديث أبي سعيد الخدري، يعني: الذي أخرجه الترمذي أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: لا يحلّ لأحد أن يطرق هذا المسجد جنباً غيري وغيرك.
والمعنى أنّ باب عليّ كان إلى جهة المسجد ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمر بسدّه.
ويؤيّد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن من طريق المطّلب بن عبداللّه بن حنطب أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يأذن لأحد أن يمرّ في المسجد وهو جنب إلاّ لعليٍّ بن أبي طالب، لأنّ بيته كان في المسجد.
ومحصّل الجمع: أنّ الأمر بسدّ الأبواب وقع مرّتين، ففي الأُولى استثني عليٌّ لما ذكره، وفي الأُخرى استثني أبو بكر. ولكن لا يتمّ ذلك إلاّ بأن يحمل ما في قصّة عليّ على الباب الحقيقي، وما في قصّة أبي بكر على الباب المجازي، والمراد به الخوخة، كما صرّح به في بعض طرقه. وكأنّهم لَمّا أُمروا بسدّ الأبواب سدّوها وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأُمروا بعد ذلك بسدّها.
فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين، وبها جمع بين الحديثين المذكورين أبو جعفر الطحاوي في (مشكل الآثار) وهو في أوائل الثلث الثالث منه، وأبو بكر الكلاباذي في (معاني الأخبار) وصرَّح بأنّ بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت عليّ لم يكن له باب إلاّ من داخل المسجد. واللّه أعلم»(1).
وكذا قال في «القول المسدّد» وأورده السيوطي ووافقه(2) وذكر القسطلاني ملخّصه في مقام الجمع بين الحديثين(3).
أقول:
1 ـ إنّ هذا الجمع الذي ذكره يبتني ـ كغيره ـ على أن يكون لأبي بكر بيت إلى جنب المسجد، وقد عرفت أنّ غير واحد من محقّقيهم ينفي ذلك، ومن هنا حمل البعض الحديث على أنّه كناية عن الخلافة! وابن حجر، وإن ضعّف القول المذكور قائلا: «وهذا الاستناد ضعيف» لكنّه لم يذكر لدعواه مستنداً قويّاً، وما ذكره من خبر ابن شبّة فضعيف سنداً(4).
2 ـ إنّ هذا الجمع الذي ذكره عن الطحاوي وغيره، ممّا قد وقف عليه النووي وأمثاله قطعاً، وإذ لم يتعرّضوا لهذا الجمع فهم معرضون عنه وغير معتمدين عليه، وهذا هو الصحيح، وستعرف بعض الوجوه الدالّة على سقوطه.
3 ـ فيما نقله ابن حجر عن البزّار نقاط:
الأُوّلى: إنّ رواة قصّة عليّ «كوفيّون» ورواة قصّة أبي بكر «مدنيّون» وهذا ما لم نتحقّقه.
والثانية: إنّ روايات قصّة عليّ «بأسانيد حسان». وهذا ما يخالف الواقع ولا يوافق عليه ابن حجر، وقد تقدّمت عبارته في ردّه على كلام ابن الجوزي.
والثالثة: تشكيكه في روايات قصّة عليّ بقوله: «إن ثبتت». وهذا تشكيك في الحقيقة الواقعة، ولا يوافق عليه ابن حجر كذلك.
والرابعة: كون معنى «لا يحلّ لأحد أن يطرق المسجد جنباً غيري وغيرك» هو «إنّ باب عليّ كان إلى جهة المسجد ولم يكن لبيته باب غيره فلذلك لم يؤمر بسدّه» باطل جدّاً.
أمّا أوّلا: فلأنّ الحديث المذكور لا يدلّ إلاّ على اختصاص هذا الحكم بهما عليهما السلام، فأين الدلالة على المعنى المذكور؟!
وأمّا ثانياً: فلأنّه لو كان السبب في أنّه لم يؤمر بسدّ بابه أنّه «لم يكن لبيته باب غيره» لم يكن وجه لاعتراض الناس وتضجّرهم ممّا فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، لا سيّما عمّه حمزة حيث جاء ـ فيما يروون ـ وعيناه تذرفان بالدموع…!
ولكان الأجدر برسول اللّه أن يعتذر بأنّه: ليس له باب غيره فلذا لم أسدّ بابه، وأنتم لبيوتكم بابان باب من داخل وباب من خارج، لا أن يسند سدّ الأبواب إلاّ بابه إلى اللّه قائلا: «ما أنا سددت شيئاً ولا فتحته، ولكن أُمرت بشيء فاتّبعته»!
ولكان لمن سأل ابن عمر عن عليّ ـ فأجابه بقوله: أمّا عليّ فلا تسأل عنه أحداً، وانظر إلى منزلته من رسول اللّه، قد سدّ أبوابنا في المسجد وأقرّ بابه ـ أن يقول له: وأيّ منزلة هذه منه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم و« لم يكن لبيته باب غيره»؟!
ولكان لقائل أن يقول له: كيف تكون هذه الخصلة أحبّ إليك من حمر النعم، وتجعلها كتزويجه من بضعته الزهراء، وإعطائه الراية في خيبر، وقد كان من الطبيعي أن لا يسدّ بابه، لأنّه «لم يكن لبيته باب غيره»؟!
ولو كان كذلك لم يبق معنى لقول بعضهم: «تركه لقرابته. فقالوا: حمزة أقرب منه وأخوه من الرضاعة وعمّه»! ولا لقول آخرين : «تركه من أجل بنته»! حتى بلغت أقاويلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فخرج إليهم… في حديث ننقله بكامله لفوائده:
«بينما الناس جلوس في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ خرج مناد فنادى: أيّها الناس، سدّوا أبوابكم، فتحسحس الناس لذلك ولم يقم أحد. ثمّ خرج الثانية فقال: أيّها الناس، سدّوا أبوابكم. فلم يقم أحد. فقال الناس: ما أراد بهذا؟ فخرج فقال: أيّها الناس، سدّوا أبوابكم قبل أن ينزل العذاب. فخرج الناس مبادرين وخرج حمزة بن عبدالمطّلب يجرّ كساءه حين نادى: سدّوا أبوابكم.
قال: ولكلّ رجل منهم باب إلى المسجد أبو بكر وعمر وعثمان، وغيرهم.
قال: وجاء عليٌّ حتى قام على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال: ما يقيمك؟ إرجع إلى رحلك ولم يأمره بالسدّ.
فقالوا: سدَّ أبوابنا وترك باب عليٍّ وهو أحدثنا! فقال بعضهم: تركه لقرابته. فقالوا: حمزة أقرب منه، وأخوه من الرضاعة، وعمّه! وقال بعضهم: تركه من أجل ابنته.
فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فخرج إليهم بعد ثالثة، فحمد اللّه وأثنى عليه محمرّاً وجهه ـ وكان إذا غضب احمرَّ عرقٌ في وجهه ـ ثمّ قال: أمّا بعد ذلكم، فإنّ اللّه أوحى إلى موسى أن اتّخذ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ هو وهارون وأبناء هارون شبراً وشبيراً، وإنّ اللّه أوحى إليَّ أن أتَّخذ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ أنا وعليّ وأبناء عليّ حسن وحسين، وقد قدمت المدينة واتّخذت بها مسجداً، وما أردت التحوُّل إليه حتّى أُمرت، وما أعلم إلاّ ما عُلِّمت، وما أصنع إلاّ ما أُمرت، فخرجت على ناقتي، فلقيني الأنصار يقولون: يا رسول اللّه انزل علينا. فقلت: خلّوا الناقة، فإنّها مأمورة، حتّى نزلت حيث بركت.
واللّه ما أنا سددت الأبواب وما أنا فتحتها، وما أنا أسكنت عليّاً، ولكنّ اللّه أسكنه»(5).
4 ـ ما ذكره بعد قوله: «ومحصّل الجمع…» ليس محصّلا لما ذكره قبله، فقد تأمّلتُ فيه فوجدتُه وجهاً مغايراً للوجه السابق!
ثمّ وجدت السمهودي ينصّ على ذلك فيقول بعد نقل العبارة:
«قلت: والعبارة تحتاج إلى تنقيح، لأنّ ما ذكره بقوله: (ومحصّل الجمع) طريقة أُخرى في الجمع غير الطريقة المتقدّمة، إذ محصّل الطريقة المتقدّمة أنّ البابين بقيا، وأنّ المأمورين بالسدّ هم الّذين كان لهم أبواب إلى غير المسجد مع أبواب من المسجد. وأمّا عليّ فلم يكن بابه إلاّ من المسجد، وأنّ الشارع صلّى اللّه عليه وسلّم خصّه بذلك، وجعل طريقه إلى بيته المسجد لما سبق، فباب أبي بكر هو المحتاج إلى الاستثناء، ولذلك اقتصر الأكثر عليه، ومن ذكر باب عليٍّ فإنّما أراد بيان أنّه لم يسدّ، وأنّه وقع التصريح بإبقائه أيضاً.
والطريقة الثانية تعدّد الواقعة، وأنّ قصّة عليّ كانت متقدّمة على قصّة أبي بكر رضي اللّه عنهما.
ويؤيّد ذلك ما أسنده يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبداللّه ابن مسلم الهلالي، عن أبيه عن أخيه، قال: لَمّا أمر بسدّ أبوابهم التي في المسجد، خرج حمزة بن عبدالمطّلب يجرّ قطيفةً له حمراء وعيناه تذرفان يبكي يقول: يا رسول اللّه أخرجت عمّك وأسكنت ابن عمّك! فقال: ما أنا أخرجتك ولا أسكنته، ولكنّ اللّه أسكنه.
فذكر حمزة رضي اللّه عنه في القصّة يدلّ على تقدّمها»(6).
5 ـ وفي الجمع الثاني ـ وهو وقوع الأمر بسدّ الأبواب مرّتين ـ نقطتان التفت إليهما ابن حجر نفسه:
إحداهما: أنّ هذا الجمع لا يتمّ إلاّ بأن يحمل ما في قصّة عليّ على الباب الحقيقي، وما في قصّة أبي بكر على الباب المجازي، والمراد به الخوخة كما صرّح به في بعض طرقه.
والثانية: ما أشار إليه بقوله: وكأنّهم لَمّا أُمروا بسدّوا الأبواب سدّوها وأحدثوا خوخاً.
أقول: أمّا في الأولى، فلقد تقدّم أنّ البخاري هو الّذي حرّف الحديث من «الخوخة» إلى «الباب»، وقد ذكرنا هناك توجيه ابن حجر ذلك بأنّه نقل بالمعنى. ولا يخفى التنافي بين كلام الحافظ ابن حجر هناك وكلامه هنا.
وأمّا في الثانية، فإنّ الوجه في قوله: «وكأنّهم…» هو أنّ قصّة حديث «إلاّ باب عليّ» متقدّمة على قصّة «حديث الخوخة» بزمن طويل. فتلك كانت قبل أُحُد كما عرفت، وهذه في أيّام مرضه الذي توفي فيه كما ذكروا، فإذا كان قد أمر بسدّ الأبواب، فأيّ معنى للأمر بسدّ الخوخ؟! فلابُدّ من أن يدّعى أنّهم أطاعوا أمره بسدّ الأبواب لكنّهم أحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها! لكنّ ابن حجر يقول: «وكأنّهم…» فهو غير جازم بهذا.
وأقول:
1 ـ هل من المعقول أن يأمر بسدّ الأبواب ويأذن بإحداث خوخ يستقربون الدخول إلى المسجد منها؟! إن كانت الخوخ المستحدَثة يستطرق منها إلى المسجد فما معنى الأمر بسدّ الأبواب؟!
2 ـ إنّه لا يوجد في شيء من ألفاظ حديث «سدّ الأبواب إلاّ باب عليّ» ما يدلّ على إذن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
3 ـ هناك في غير واحد من الأحاديث تصريح بالمنع عن إحداث الخوخ بعد الأمر بسدّ الأبواب، ففي حديث: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «سدّوا أبواب المسجد إلاّ باب عليّ. فقال رجل: أُترك لي قدر ما أخرج وأدخل؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لم أُؤمر بذلك. قال: أُترك بقدر ما أُخرج صدري يا رسول اللّه؟! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لم أُؤمر بذلك. وانصرف. قال رجل: فبقدر رأسي يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لم أُؤمر بذلك. وانصرف واجداً باكياً حزيناً، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لم أُؤمر بذلك، سدّوا الأبواب إلاّ باب عليّ»(7).
وفي آخر: «قال له رجل من أصحابه: يا رسول اللّه، دع لي كوّة أنظر إليك منها حين تغدو وحين تروح. فقال: لا واللّه ولا مثل ثقب الإبرة»(8).
ومن هنا قال السمهودي: «وقد اقتضى ذلك المنع من الخوخة أيضاً، بل وممّا دونها عند الأمر بسدّ الأبواب أوّلا»(9).
إلى هنا، وقد ظهر أنّ الحقّ مع المعرضين عن الجمع.

(1) فتح الباري 7 / 18.
(2) اللآلي المصنوعة 1 / 318 ـ 321.
(3) إرشاد الساري 8 / 147.
(4) تاريخ المدينة المنوّرة ـ لابن شبّة ـ 1 / 242.
(5) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 2 / 478 ـ 479.
(6) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 2 / 477.
(7) وفاء الوفا 2 / 479 ـ 480.
(8) المصدر 2 / 480.
(9) وفاء الوفا 2 / 480.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *