الاختلافات في متن الحديث

الاختلافات في متن الحديث
فلنعد إلى النظر في متن الحديث ودلالته… بعد فرض تماميّة سنده وصحّته… فبالنسبة إلى المتن… قد اتّفقت جميع ألفاظ الحديث على أنّه «عهد» و «وصيّة» من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم… .
واشتملت ألفاظه على أُمور أربعة هي:
الأمر بتقوى اللّه عزّوجلّ… .
والأمر بالسمع والطاعة للحاكم كائناً من كان… .
والتحذير من محدَثات الأُمور… .
والأمر باتّباع سُنّته وسُنّة الخلفاء الراشدين من بعده… .
وليس في شيء من ألفاظ الحديث الوصيّة بالقرآن والعمل به… .
وربّما خلت بعض الألفاظ من الأمر بالتقوى… .
ثمّ إنّ الأُمور الثلاثة ـ عدا الأمر بالتقوى ـ تختلف فيها الألفاظ تقديماً وتأخيراً.
ولربّما جاءت كلمة «عضّوا عليها…» بعد «الطاعة» لا بعد «السُنّة»… .
وربّما قال: «وعضّوا على نواجذكم بالحقّ».
لكن في أحد الألفاظ: «عليكم بتقوى اللّه… أظنّه قال: والسمع والطاعة» فالراوي غير متأكّد من أنّه قال ذلك! ثمّ لمن السمع والطاعة؟!
والحافظ أبو نعيم رواه بترجمة العرباض بسنده: عن الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، حدّثني عبدالرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر.
«أتينا العرباض بن سارية ـ وهو ممّن نزل فيه… ـ فسلّمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين»(1).
رواه إلى هنا ولم يزد عليه.
ورواه بترجمة خالد من أوّله إلى آخره(2).
والأمر سهل… .
ثمّ إنّه جاء في بعض ألفاظ الحديث في آخره:
«فكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث: فإنّ المؤمن كالجمل الأنف حيث ما قيد انقاد»(3).
لكنّ «أسد بن وداعة» ـ وهو من الّذين كانوا يجلسون ويسبّون عليَّ بن أبي طالب عليه السلام كما عرفت ـ لم يقع في شيء من طرق الحديث، فبأيّ وجه كان يزيد في هذا الحديث؟! وهل المؤمن كالجمل…؟!
فلمّا رأى بعضهم أنّ هذا تلاعبٌ بالحديث بزيادة باطلة من رجل مبطِل، وأنّ ذلك قد يكشف عن حقيقة حال الحديث… صحّفه إلى:
«… فكان أشدّ ]علينا[ من وداعه، يزيد في هذا الحديث: فإنّ المؤمن…»(4).
لكن تبقى كلمة «يزيد» بلا فاعل…!
فرجّح البعض الآخر إسقاط الجملة وإلحاق الكلام بالحديث، فقال:
«وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشيّاً، فإنّما المؤمن…»(5).
وليته أسقط الكلام أيضاً، لكنّه يقوّي المعنى ويؤكّد وجوب الطاعة المطلقة لوليّ الأمر كائناً من كان!!
هذا ما يتعلّق بالمتن… .
معنى السُنّة:
والأمر المهمّ الذي اتّفقت عليه جميع ألفاظ الحديث إخباره صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالاختلاف الكثير من بعده، ثمّ أمره من أدرك ذلك باتّباع سُنّته وسُنّة الخلفاء بلفظ «فعليكم».
ففي جميع الألفاظ: «فإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء…».
و«السُنّة» هي الطريقة والسيرة، يقال: سنّ الماء، وسنّ السبيل، وسنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم كذا، أي: شرّعه وجعله شرعاً.
وسُنّته عند أهل الشرع: قوله وفعله وتقريره، ولهذا يقال في أدلّة الشرع: الكتاب والسُنّة. أي: القرآن والحديث(6).
وعلى الجملة، فمعنى السُنّة في الشريعة نفس معناها في اللغة لم يعدل بها عنها.
حجّيّة سُنّة النبيّ:
وسُنّة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الثابتة عنه بالطرق المعتبرة حجّة بلا كلام، وضرورة دينيّة لا يخالف فيها إلاّ من لاحظّ له من دين الإسلام… .
وقد استدلّوا على حجّيّتها بآيات من الكتاب وأحاديث عن المصطفى صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، لكن لا يتّم الاستدلال بها إلاّ على وجه دائر كما لا يخفى… .
فالعمدة في وجه الحجّيّة هي «العصمة» ومن هنا يتعرّض العلماء ـ في بحثهم عن حجّيّة السُنّة ـ لعصمة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم(7).

معنى سُنّة الخلفاء:
قال ابن فارس: «وممّا كرهه العلماء قول من قال: سُنّة أبي بكر وعمر، إنّما يقال: فرض اللّه جلّ وعزّ وسنّته وسنة رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وآله وسلّم»(8).
قلت: وجه كراهية العلماء ذلك واضح، لأن كلمة «السُنّة» أصبحت في عرف المتشرّعة مختصّةً بما عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قولا وفعلا وتقريراً، لأنّه الحجّة بعد الكتاب، حيث يقال: الكتاب والسُنّة، لكنّهم كرهوا هذا القول مع كون حديث «عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين» بمرأىً منهم ومشهد، فإن كانوا في شكّ من صدور الحديث عن النبيّ فلا بحث، وإلاّ فبم يفسِّرونه؟!
هنا مشاكل:
1 ـ لقد ذكرنا أنّ «السُنّة» في اللغة بمعنى «الطريقة»، وهي بنفس المعنى في الشريعة بالنسبة إلى «سُنّة النبي» صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فهل تفسَّر «سُنّة الخلفاء» بنفس المعنى كذلك؟!
2 ـ لقد عطف صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «سُنّة الخلفاء» على «سُنّته» وظاهر العطف هو المغايرة بين السُنّتين، فما معنى هذه المغايرة؟! وكيف يأمر صلّى اللّه عليه وآله وسلّم باتّباع سُنّتهم المغايرة لسُنّته؟!
3 ـ أمره باتّباع سُنّتهم مطلق غير مقيّد كما هو الحال في وجوب اتّباع سُنّته، وهكذا أمر يقتضي عصمة المتبوع بلا ريب، أمّا النبي فمعصوم بالإجماع، وأمّا الخلفاء فليس كلّهم بمعصوم بالإجماع، فكيف يؤمر ـ أمراً مطلقاً ـ باتّباع المعصوم وغير المعصوم معاً؟!
هذه مشاكل حار القوم في حلّها… واضطربوا اضطراباً شديداً تجاهها… .
والواقع: إنّ كبار علمائهم قد أطالوا الكلام في هذا وأخذوا في تأويله بوجوه متعسِّفة.
المشكلة الأُولى:
أمّا الأُولى فلا مانع من حلّها بتفسير «السُنّة» هنا أيضاً بـ«الطريقة» كما ذكر الشرّاح كصاحب «سبل السلام» والقاري والمباركفوري… .
وهذا هو الذي اختاره الشوكاني حيث قال:
«الذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه هو العمل بما يدلّ عليه هذا التركيب بحسب ما تقتضيه لغة العرب، فالسُنّة هي الطريقة، فكأنّه قال: الزموا طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين، وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته، فإنّهم أشدّ الناس حرصاً عليها وعملا بها في كلّ شيء وعلى كلّ حال، كانوا يتوقّون مخالفته في أصغر الأُمور فضلا عن أكبرها».
أقول:
وهكذا تنحلّ المشكلة الأُولى، وقد أكّد كلّهم على أنّه «كانت طريقتهم نفس طريقته» متجاوزين ظهور الحديث في المغايرة، وقد أضاف الشوكاني بأن علّل اتّحاد الطريقة بقوله: «فإنّهم أشدّ الناس حرصاً عليها وعملا بها في كلّ شيء وعلى كلّ حال، كانوا يتوقّون مخالفته في أصغر الأُمور فضلا عن أكبرها».
قلت: لكنّا وجدنا الخلفاء الثلاثة ـ وكذا أكثر الأصحاب ـ يخالفونه في أكبر الأُمور فضلا عن أصغرها، حتى مع وجود النصوص الصريحة عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وقد سبق أن ذكرنا بعض الموارد المسلَّمة من تلك المخالفات… فالّذين كانت «طريقتهم نفس طريقته، فإنّهم أشدّ الناس حرصاً عليها وعملا بها…» غير هؤلاء، فمن هم؟!
المشكلة الثانيّة:
وإذا كان المراد من «الخلفاء» غير الّذين يقول بهم أهل السُنّة فالمشكلة الثانية منحلّة أيضاً… .
أمّا على قولهم، فقد رأيتهم يتجاوزون هذه المشكلة.. إلاّ الشوكاني… فإنّه قال بعد عبارته المذكورة:
«وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب اللّه وسُنّة رسوله عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدّبر، وهذا الرأي عند عدم الدليل هو أيضاً من سُنّته، لِما دلّ عليه حديث معاذ لَمّا قال له رسول اللّه: بما تقضي؟ قال: بكتاب اللّه. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسُنّة رسوله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: الحمد للّه الذي وفّق رسوله أو كما قال.
وهذا الحديث وإن تكلَّم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف، فالحقّ أنّه من قسم الحسن لغيره وهو معمول به، وقد أوضحت هذا في بحث مستقلٌ.
فإن قلت: إذا كان ما عملوا فيه بالرأي هو من سُنّته لم يبق لقوله: «سُنّة الخلفاء الراشدين» ثمرة.
قلت: ثمرته أنّ من الناس من لم يدرك زمنه وأدرك زمن الخلفاء الراشدين، أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنّه حدث أمر لم يحدث في زمنه، ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سُنّة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردّد إلى بعض النفوس من الشكّ ويختلج فيها من الظنون.
فأقلُّ فوائد الحديث أنّ ما يصدر منهم من الرأي وإن كان من سُنّته كما تقدّم، ولكنّه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل.
وبالجملة، فكثيراً ما كان صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ينسب الفعل أو الترك إليه أو إلى أصحابه في حياته، مع أنّه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه، لأنّه محلّ القدوة ومكان الأُسوة.
فهذا ما ظهر لي في تفسير هذا الحديث، ولم أقف عند تحريره على ما يوافقه من كلام أهل العلم. فإن كان صواباً فمن اللّه، وإن كان خطأً فمنّي ومن الشيطان، وأستغفر اللّه العظيم».
أقول:
لقد تنبّه هذا الشيخ الجليل إلى أنّ القول بأنّ «طريقتهم نفس طريقته» يتنافى وظاهر الحديث الدالّ على «المغايرة»، ورفع اليد عن الظهور بلا دليل غير جائز، فنقل الكلام إلى حجّيّة آراء الخلفاء واجتهاداتهم، وقال بذلك استناداً إلى حديث معاذ، ثمّ ذكر في هذا المقام دلالة الحديث على المغايرة بصورة سؤال، وحاول الإجابة عنه بما هو في الحقيقة التزام بالإشكال!
وعلى الجملة، فإنّ الكلام في إثبات أنّ «طريقة الخلفاء نفس طريقة النبي» والإجابة عمّا إن قيل بأنّه: كيف تكون طريقتهم نفس طريقته وظاهر الحديث المغايرة؟! وأنّه إذا «كانت طريقتهم نفس طريقته» لم يبق لقوله: «وسُنّة الخلفاء» ثمرة؟!
أمّا أنّ اجتهادات الخلفاء وآرائهم حجّة أو لا؟ فذاك بحث آخر ليس هذا موضعه، وخلاصة الكلام فيه أنّه لا دليل عليه إلاّ حديث معاذ الذي أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد عن «الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة قال: حدّثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ».
فمن الحارث؟! ومن أصحاب معاذ؟!
ولذا اعترف الشوكاني بهوانه، بل عدّه بعضهم في (الموضوعات) كما لا يخفى على من يراجع شروح السنن والكتب المطوّلات… .
والحاصل: إنّ المشكلة الثانية باقية على أساس أهل السُنّة، وأنّ هذا الذي ظهر للشوكاني في تفسير الحديث ـ ولم يقف على ما يوافقه من كلام أهل العلم ـ يجب عليه أن يستغفر منه!
المشكلة الثالثة:
قد ذكرنا أنّ الأمر المطلق بالإطاعة والمتابعة المطلقة دليل على عصمة المتبوع… وقد نصَّ على ذلك العلماء في نظائره، كقوله تعالى: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) قال الرازي بتفسيره ما نصّه:
«أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه، الآية، ومَن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابُدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأً منهيٌّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وإنّه محال.
فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ»(9).
وفي هذا المقام أيضاً نبّه الغزّالي على ذلك، حيث قال بعد الحكم ببطلان الأقوال ـ في عبارته التي نقلناها آنفاً ـ ما نصّه:
«فإنّ من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه، فلا حجّة في قوله، فكيف يُحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟!
وكيف تُدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟!
وكيف يتصوّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟!
وكيف يختلف المعصومان؟!
كيف؟ وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتّبع اجتهاد نفسه؟!
فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه، ثلاثة أدلّة قاطعة»(10).

أقول:
نعم، هي ـ وغيرها ممّا ذكرناه ولم نذكره ـ أدلّة قاطعة على أن ليس «الخلفاء» في هذا الحديث مطلق الصحابة، ولا مطلق الخلفاء، ولا خصوص الأربعة مطلقاً… .

(1) حلية الأولياء 2 / 17.
(2) حلية الأولياء 5 / 251.
(3) المستدرك 1 / 176 كتاب العلم الرقم 331.
(4) عارضة الأحوذي 10 / 145.
(5) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 156، النهاية والمصباح المنير «سن».
(6) النهاية «سنن» 2 / 368.
(7) لاحظ كتب الأُصول كإرشاد الفحول: 1 / 81.
(8) الصاحبي في فقه اللغة 60.
(9) التفسير الكبير 5 / 149.
(10) المستصفى في علم الاصول 1 / 261 ـ 262.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *