1 ـ سورة الشورى مكّية و الحسنان غير موجودين

وإذا ثبتت صحّة الأحاديث الدالة على نزول الآية المباركة في «أهل البيت» حتّى التي تكلّم في أسانيدها، بعد بيان سقوط ما تذرّعوا به، تندفع جميع الشبهات التي يطرحونها حول ذلك.
ولكنّا مع ذلك نذكر ما قالوه في هذا الباب، ونجيب عنه بالأدلة والشواهد القويمة، (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة).
ولعلّ أشدّ القوم مخالفةً في المقام هو ابن تيميّة في «منهاج السُنّة» فلنقدّم كلماته:
* يقول ابن تيميّة: «ثبت في الصحيح عن سعيد بن جبير: أنّ ابن عبّاس سئل عن قوله تعالى: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: فقلت: إلاّ أن تودّوا قربى محمّد. فقال ابن عبّاس: عجلت! إنّه لم يكن بطن من قريش إلاّ لرسول الله منهم قرابة فقال: قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ أن تودّوني في القرابة التي بيني وبينكم.
فابن عبّاس كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القرآن، وهذا تفسيره الثابت عنه.
ويدلّ على ذلك أنّه لم يقل: إلاّ المودّة لذوي القربى، ولكن قال: إلاّ المودّة في القربى. ألا ترى أنّه لمّا أراد ذوي قرباه قال: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى). ولا يقال: المودّة في ذوي القربى، وإنّما يقال: المودّة لذوي القربى، فكيف وقد قال (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؟!
ويبيّن ذلك: إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يَسأل أجراً أصلا، إنّما أجره على الله، وعلى المسلمين موالاة أهل البيت لكن بأدلّة أخرى غير هذه الآية. وليست موالاتنا لأهل البيت من أجر النبيّ في شيء.
وأيضاً، فإنّ هذه الآية مكّية، ولم يكن عليٌّ قد تزوّج بفاطمة، ولا وُلد له أولاد»(1).

* وقال ابن تيميّة:
«وأمّا قوله: وأنزل الله فيهم (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فهذا كذب ظاهر، فإنّ هذه الآية في سورة الشورى، وسورة الشورى مكّيّة بلا ريب، نزلت قبل أن يتزوّج عليّ بفاطمة… وقد تقدّم الكلام على الآية وأنّ المراد بها ما بيّنه ابن عبّاس… رواه البخاري وغيره…
وقد ذكر طائفة من المصنّفين من أهل السُنّة والجماعة والشيعة، من أصحاب أحمد وغيرهم، حديثاً عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن هذه الآية لمّا نزلت قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء؟ قال: عليّ وفاطمة وابناهما.
وهذا كذب باتّفاق أهل المعرفة»!(2).
* وكرّر ابن تيميّة:
تكذيب الحديث المذكور. وأنّ الآية في سورة الشورى وهي مكّية، وأنّ عليّاً إنّما تزوّج فاطمة بالمدينة… وأنّ التفسير الذي في الصحيحين يناقض ذلك الحديث، قال: سئل ابن عبّاس… وأنّه قال: (لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)ولم يقل: إلاّ المودّة للقربى، ولا المودّة لذوي القربى كما قال: (وَاعْلَمُواْ…)… وأنّ النبيّ لا يسأل على تبليغ رسالة ربّه أجراً ألبتة، بل أجره على الله… وأنّ القربى معرّفة باللام، فلابدّ أن تكون معروفةً عند المخاطبين.
وقد ذكرنا أنّها لمّا نزلت لم يكن قد خُلق الحسن ولا الحسين، ولا تزوّج عليّ بفاطمة، فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها يمتنع أن تكون هذه، بخلاف القربى التي بينه وبينهم، فإنّها معروفة عندهم(3).
* ولم يذكر ابن حجر العسقلاني في (تخريج الكشّاف) إلاّ «المعارضة» قال: «وقد عارضه ما هو أولى منه، ففي البخاري…»(4)وكذا في «فتح الباري» وأضاف: «ويؤيّد ذلك أنّ السورة مكّية»(5).
* وقال ابن كثير: «وذكر نزول الآية في المدينة بعيد، فإنّها مكّيّة، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلّية، فإنّها لم تتزوّج بعليٍّ ـ رضي الله عنه ـ إلاّ بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحقّ تفسير هذه الآية بما فسّرها حبر الأُمّة…»(6).
* وقال القسطلاني: «والآية مكّية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلّية، فإنّها لم تتزوّج بعليٍّ إلاّ بعد بدر في السنة الثانية من الهجرة. وتفسير الآية بما فسّر به حبر الأُمّة وترجمان القرآن ابن عبّاس أحقّ وأولى»(7).
* والشوكاني اقتصر على المعارضة وترجيح الحديث عن طاووس عن ابن عبّاس(8).
* وابن روزبهان ما قال إلاّ: «ظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم»(9).
* وقال عبد العزيز الدهلوي ما حاصله:
«إنّه وإن أخرج أحمد والطبراني ذلك عن ابن عبّاس، لكنّ جمهور المحدّثين يضعّفونه، لكون سورة الشورى بتمامها مكّية، وما خُلق الحسن والحسين في ذلك الوقت، ولم يتزوّج عليّ بعد بفاطمة… والحديث في طريقه بعض الشيعة الغلاة، وقد وصفه المحدّثون بالصدق، والظنّ الغالب أنّه لم يكذب وإنّما نقل الحديث بالمعنى. إذ كان لفظه «أهل بيتي» فخصّهم الشيعي بالأربعة…
والمعنى المذكور لا يناسب مقام النبوّة، وإنّما ذلك من شأن أهل الدنيا، وأيضاً ينافيه الآيات الكثيرة كقوله تعالى: (مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ) فلو كان خاتم الأنبياء طالباً للأجر لزم أن تكون منزلته أدنى من سائر الأنبياء، وهو خلاف الإجماع»(10).
فهذه شبهات أعلام القوم في هذا المقام، فلنذكر الشبهات بالترتيب ونتكلّم عليها:

1 ـ سورة الشورى مكّية و الحسنان غير موجودين:
ولعلّ هذه أهمّ الشبهات في المسألة، وهي الأساس… ونحن تارةً نبحث عن الآية المباركة بالنظر إلى الروايات، وأُخرى بقطع النظر عنها، فيقع البحث على كلا التقديرين.
أمّا على الأول: فإنّ الآية المباركة بالنظر إلى الروايات المختلفة الواردة ـ سواء المفسّرة بأهل البيت، أو القائلة بأنّها نزلت بمناسبة قول الأنصار كذا وكذا ـ مدنيّة، ولذا قال جماعة بأن سورة الشورى مكّيّة إلاّ آيات:
قال القرطبي: «سورة الشورى مكّيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عبّاس وقتادة: إلاّ أربع آيات منها أُنزلت بالمدينة: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخرها»(11).
وقال أبو حيّان: «قال ابن عبّاس: مكّية إلاّ أربع آيات، من قوله تعالى: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخر الأربع آيات فإنّها نزلت بالمدينة»(12).
وقال الشوكاني: «وروي عن ابن عبّاس وقتادة أنّها مكّيّة إلاّ أربع آيات منها أُنزلت بالمدينة: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ…)(13)».
وقال الآلوسي: «وفي البحر: هي مكّيّة إلاّ أربع آيات من قوله تعالى: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) إلى آخر أربع آيات. وقال مقاتل: فيها مدنيّ، قوله تعالى: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ…)واستثنى بعضهم قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى)…
وجوّز أن يكون الإطلاق باعتبار الأغلب»(14).
وبهذا القدر كفاية.
ووجود آيات مدنيّة في سورة مكّيّة أو بالعكس كثير، ولا كلام لأحد في ذلك. فالشبهة مندفعة على هذا التقدير بكلّ وضوح.
وأمّا على الثاني: فالآية دالّة على وجوب مودّة «القربى» أي: أقرباء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والخطاب للمسلمين لا لغيرهم.
أمّا أنّها دالّة على وجوب مودّة «قربى» النبيّ، فلتبادر هذا المعنى منه، وقد أذعن بهذا التبادر غير واحد من الأئمّة، نذكر منهم:
الكرماني، صاحب «الكواكب الدراري في شرح البخاري»(15).
والعيني، صاحب «عمدة القاري في شرح البخاري».
قال العيني بشرح حديث طاووس: «وحاصل كلام ابن عبّاس: إن جميع قريش أقارب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وليس المراد من الآية بنو هاشم ونحوهم كما يتبادر الذهن إلى قول سعيد بن جبير»(16).
وأمّا أن الخطاب للمسلمين، فلوجوه، منها: السياق، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول:
(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).
فقد جاءت الآية المباركة بعد قوله تعالى: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
فإن قلت:
فبعدها: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً…)؟!
قلت:
ليس المراد من ذلك المشركين، بل المراد هم المسلمون ظاهراً المنافقون باطناً، يدلّ على ذلك قوله بعده: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) فالخطاب ليس للمشركين، ولم تستعمل «التوبة» في القرآن إلاّ في العصاة من المسلمين.
فإن قلت:
فقد كان في عداد المسلمين في مكّة منافقون؟!
قلت:
نعم، فراجع ما يقوله المحققون في و(سورة المدّثّر) وقارن بما قاله المفسّرون(17).
وعلى هذا، فقد كان الواجب على المسلمين عامّة «مودّة» أقرباء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم… فهل ـ يا تُرى ـ أُمروا حينذاك بمودّة أعمامه وبني عمومته؟!
أمّا المشركون منهم.. فلا، قطعاً.. وأمّا المؤمنون منهم وقت نزول الآية أو بعده… فأولئك لم يكن لهم أيّ دور يُذكر في مكّة…
بل المراد «عليّ» عليه السلام، فإنّه الذي كان المشركون يبغضونه ويعادونه، والمنافقون يحسدونه ويعاندونه، والمؤمنون يحبّونه ويوادّونه.
ولا يخفى ما تدلّ عليه كلمتا «المودّة» و «يقترف».
ثمّ إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا سئل ـ في المدينة ـ عن المراد من «القربى» في الآية المباركة قال: «عليّ وفاطمة والحسن والحسين».

(1) منهاج السُنّة 4/25 ـ 27.
(2) منهاج السُنّة 4/562 ـ 563.
(3) منهاج السُنّة 7/95 ـ 103.
(4) الكاف الشاف، ط مع الكشاف 4/220.
(5) فتح الباري في شرح البخاري 8/458.
(6) تفسير القرآن العظيم 4/101.
(7) إرشاد الساري في شرح البخاري 7/331.
(8) فتح القدير 4/537.
(9) إبطال الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ 3/20.
(10) التحفة الاثنا عشرية: 205.
(11) تفسير القرطبي 16/1.
(12) البحر المحيط 7/507.
(13) فتح القدير 4/524.
(14) روح المعاني 25/10.
(15) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري 81/80.
(16) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 19/157.
(17) يراجع بهذا الصدد: تفاسير الفريقين، خاصّة في سورة المدّثر، المكّية عند الجميع، ويلاحظ اضطراب كلمات أبناء العامّة وتناقضها، في محاولات يائسة لصرف الآيات الدالّة على ذلك عن ظواهرها، فراراً من الإجابة عن السؤال بـ «مَن هم إذاً؟»!!.
أمّا الشيعة.. فقد عرفوا المنافقين منذ اليوم الأوّل… وللتفصيل مكان آخر، لو وجدنا متّسعاً لوضعنا في هذه المسألة القرآنية التاريخية المهمّة جدّاً رسالة مفردة، وبالله التوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *