تأملات في خصوص حديث المسور

وبعد، فإنّه لابدّ من التأمّل في متن الحديث ومدلوله… فلابُدّ من النظر إلى المتن.. لأنّه في كلّ مورد يختلف فيه متن الحديث والأسانيد معتبرة، يلجأ العلماء إلى القول بتعدّد الواقعة.. وأمّا حيث لا يمكن الالتزام بتعدّدها وتعذّر الجمع بين ألفاظ الحديث… فذلك عندهم قرينة قويّة على أن لا واقعيّة للقضيّة… .
هذا ما قرّره العلماء… وبنوا عليه في كثير من الأحاديث الفقهيّة وأخبار القضايا التاريخيّة.. ونحو ذلك… .
ولابُدّ من النظر في الدلالة… فقد يكون الحديث صحيحاً سنداً ولكنه يخالف ـ من حيث الدلالة ـ الضرورة العقلية أو محكم الكتاب أو قطعيّ السُنّة أو واقع الحال… .
ونحن ننظر في متن هذا الحديث ومدلوله، بعد فرض صحّة سنده وقبوله.. في فصول:
تأملات في خصوص حديث المسور
1 ـ لقد جاء عن مسور: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم «وأنا محتلم» ابن حجر بشرح البخاري: «في رواية الزهري عن عليّ بن حسين عن المسور ـ الماضية في فرض الخمس ـ : (يخطب الناس على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم). قال ابن سيّد الناس: هذا غلط. والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ (كالمحتلم). أخرجه من طريق يحيى بن معين عن يعقوب بن إبراهيم بسنده المذكور إلى عليّ بن الحسين. قال: والمسور لم يحتلم في حياة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، لأنّه ولد بعد ابن الزبير، فيكون عمره عند وفاة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثماني سنين»(1).
وقال بترجمة المسور: «ووقع في صحيح مسلم(2) من حديثه في خطبة عليّ لابنة أبي جهل، قال المسور: سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا محتلم يخطب الناس، فذكر الحديث. وهو مشكل المأخذ، لأنّ المؤرّخين لم يختلفوا أنّ مولده كان بعد الهجرة، وقصّة عليّ كانت بعد مولد المسور بنحو من ستّ سنين أو سبع سنين، فكيف يسمّى محتلماً؟!»(3).
أقول: فهذا إشكال في المتن! ولربّما أمكن الإشكال من هذه الناحية في السند! والعجب من الذهبي كيف توهّم من هذا الحديث كونه محتلماً يومذاك(4).
2 ـ ذكر المسور قصّة خطبة بنت أبي جهل عند طلبه للسيف من عليّ بن الحسين عليه السّلام. وقد وقع الإشكال عندهم في مناسبة ذلك، وذكروا وجوهاً اعترفوا بكون بعضها تكلّفاً وتعسّفاً، لكنَّ الحقّ أنّ جميعها كذلك كما سترى.
قال الكرماني: «فإن قلت: ما وجه مناسبة هذه الحكاية لطلب السيف؟ قلت: لعلّ غرضه منه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يحترز ممّا يوجب الكدورة بين الأقرباء، وكذلك أنت أيضاً ينبغي أن تحترز منه، وتعطيني هذا السيف حتى لا يتجدّد بسببه كدورة أُخرى.
أو: كما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يراعي جانب بني أعمامه العبشمية، أنت راع جانب بني أعمامك النوفلية; لأنّ المسور نوفليّ.
أو: كما أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحبّ رفاهيّة خاطر فاطمة، أنا أيضاً أُحبّ رفاهيّة خاطرك، فأعطنيه حتى أحفظه لك»(5).
هذه هي الوجوه التي ذكرها الكرماني لدفع الإشكال، وقد ذكرها ابن حجر وقال ـ بعد أن أشكل على الثاني بأنّ المسور زهري لا نوفلي ـ : «وهذا الأخير هو المعتمد وما قبله ظاهر التكلّف» ثم قال: «وسأذكر إشكالا يتعلّق بذلك في كتاب المناقب»(6).
وكأنَّ العيني لم يرتضِ هذا الوجه المعتمد! فقال: «إنّما ذكر المسور قصّة خطبة عليّ بنتَ أبي جهل، ليعلم عليّ بن الحسين زين العابدين بمحبّته في فاطمة وفي نسلها، لِما سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم»(7).
قلت: إذا كان ذكر القصّة ليعلم أنّه يحبّ رفاهيّة خاطره، أو ليعلم بمحبّته في فاطمة ونسلها، فأيّ خصوصيّة للسيف؟! وهل كانت الرفاهيّة لخاطره حاصلة من جميع الجهات، وهو قادم من العراق مع تلك النسوة والأطفال بتلك الحال، وبقي خاطره مشوّشاً من طرف السيف، فأراد رفاهيّة خاطره، أو إعلامه بمحبّته له، كي يعطيه السيف؟!.
3 ـ وهل من المعقول أن يذكر الإنسان لمن يريد أن يعلم بمحبّته له ورفاهيّة خاطره ما يكدِّر خاطره ويجرح عواطفه؟!
وهذا هو الإشكال الذي أشار إليه ابن حجر في عبارته الآنفة. ثم قال في كتاب المناقب: «ولا أزال أتعجّب من المسور كيف بالغ في تعصّبه لعَليّ بن الحسين، حتى قال: إنّه لو أودع عنده السيف لا يُمَكِّن أحداً منه حتى تزهق روحه، رعايةً لكونه ابن ابن فاطمة، ولم يراعِ خاطره في أنّ في ظاهر سياق الحديث غضاضة على عليّ بن الحسين، لِما فيه من إيهام غضٍّ من جدّه عليّ بن أبي طالب، حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة، حتى اقتضى أن يقع من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك من الإنكار ما وقع؟!
بل أتعجّب من المسور تعجّباً آخر أبلغ من ذلك، وهو أن يبذل نفسه دون السيف رعايةً لخاطر ولد ابن فاطمة، وما بذل نفسه دون ابن فاطمة نفسه ـ أعني الحسين والد عليّ الذي وقعت له معه القصّة ـ حتى قتل بأيدي ظلمة الولاة؟!!»(8).
ثم إنّ ثمّة شيئاً آخر… وهو أنّ المسور بن مخرمة لَمّا خطب الحسن بن الحسن ابنته حمد اللّه وأثنى عليه وقال: «أمّا بعد، واللّه ما من نسب ولا سبب ولا صهر أحبّ إليَّ من سببكم وصهركم، ولكنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: فاطمة مضغة مني، يقبضني ما قبضها، ويبسطني ما بسطها، وإنّ الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري، وعندك ابنته، ولو زوَّجتك لقبضها ذلك. فانطلق الحسن عاذراً إليه»(9).
ولو كان مسور يروي قصّة خطبة أبي جهل لاستشهد بها وحكى الحديث كاملا، لشدّة المناسبة بين خطبة عليٍّ ابنة أبي جهل وعنده فاطمة، وخطبة الحسن بن الحسن ابنة المسور وعنده بنت عمه!
فهذه إشكالات حار القوم في حلّها الحلّ المعقول.

(1) فتح الباري 9 / 409.
(2) قد عرفت أنّه وقع في صحيح البخاري أيضاً، فلماذا خصّه بمسلم؟!
(3) تهذيب التهذيب 10 / 138.
(4) سير أعلام النبلاء 3 / 393.
(5) الكواكب الدراري 13 / 88 ـ 89.
(6) فتح الباري 6 / 264.
(7) عمدة القاري 15 / 34.
(8) فتح الباري 9 / 409.
(9) مسند أحمد 5 / 423 حديث المسور بن مخرمة الرقم 18428، المستدرك 3 / 172 كتاب معرفة الصحابة ذكر مناقب فاطمة بنت رسول اللّه الرقم 4747، سنن البيهقي 7 / 102 كتاب النكاح باب الأنساب كلها منقطعة يوم القيامة إلا نسبه الأرقام 13395 و 13396.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *