في دفع شبهات المخالفين

في دفع شبهات المخالفين
وتلخّص الكلام في الفصل السابق في أنّ الآية المباركة دالة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، إن لم يكن بالنصّ فبالدلالة على العصمة وعلى الأفضليّة للأحبية والأقربية وغيرهما من الوجوه… ولم يكن هناك أيّ مجال للطعن في سند الحديث أو التلاعب بمتنه… .
فلننظر في كلمات المخالفين في مرحلة الدلالة:
* أمّا إمام المعتزلة، فقد قال:
«دليل آخر لهم: وربّما تعلّقوا بآية المباهلة وأنّها لما نزلت جمع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأنّ ذلك يدلّ على أنّه الأفضل، وذلك يقتضي أنّه بالإمامة أحقّ، ولابدّ من أن يكون هو المراد بقوله: (وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) الآية. لأنّه عليه السلام لا يدخل تحت قوله تعالى: (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ) فيجب أن يكون داخلا تحت قوله: (وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ)، ولا يجوز أن يجعله من نفسه إلاّ وهو يتلوه في الفضل.
وهذا مثل الأوّل في أنّه كلام في التفضيل، ونحن نبيّن أنّ الإمامة قد تكون في من ليس بأفضل.
وفي شيوخنا من ذكر عن أصحاب الآثار أنّ عليّاً عليه السلام لم يكن في المباهلة.
قال شيخنا أبو هاشم: إنّما خصّص صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من تقرّب منه في النسب ولم يقصد الإبانة عن الفضل، ودلّ على ذلك بأنّه عليه السلام أدخل فيها الحسن والحسين عليهما السلام مع صغرهما لِما اختصّا به من قرب النسب. وقوله: (وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) يدلّ على هذا المعنى، لأنّه أراد قرب القرابة، كما يقال في الرجل يقرب في النسب من القوم: أنّه من أنفسهم.
ولا ينكر أن يدلّ ذلك على لطف محلّه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وشدّة محبّته له وفضله، وإنّما أنكرنا أن يدلّ ذلك على أنّه الأفضل أو على الإمامة…»(1).

أقول:
ويتلّخص هذا الكلام في أُمور:
الأوّل: إنّ الإمامة قد تكون في من ليس بأفضل.
وهذا ـ في الواقع ـ تسليم باستدلال الإمامية بالآية على أفضليّة أمير المؤمنين عليه السلام، وكون الإمامة في من ليس بأفضل لم يرتضه حتّى مثل ابن تيميّة!
والثاني: إنّ عليّاً لم يكن في المباهلة.
وهذا أيضاً دليل على تماميّة استدلال الإماميّة، وإلاّ لم يلتجؤا إلى هذه الدعوى، كما التجأ بعضهم ـ كالفخر الرازي ـ في الجواب عن حديث الغدير، بأنّ عليّاً لم يكن في حجّة الوداع!
والثالث: إنّه لم يكن القصدُ إلى الإبانة عن الفضل، بل أراد قرب القرابة.
وهذا باطلّ، لأنّه لو أراد ذلك فقط، لأخرج غيرهم من أقربائه كالعبّاس، وهذا ما تنبّه إليه ابن تيميّة فأجاب بأنّ العبّاس لم يكن من السابقين الأوّلين، فاعترف ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ بالحقّ.
هذا، ولا يخفى أنّ معتمد الأشاعرة في المناقشة هو هذا الوجه الأخير، وبهذا يظهر أنّ القوم عيال على المعتزلة، وكم له من نظير!!

* وقال ابن تيميّة(2):
«أمّا أخذه عليّاً وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة، فحديث صحيح، رواه مسلم عن سعد بن أبي وقّاص. قال في حديث طويل: «لمّا نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللّهمّ هؤلاء أهلي».
ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضليّة.
وقوله:: (قد جعل اللّه نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والاتّحاد محال، فبقي المساواة له، وله الولاية العامّة، فكذا لمساويه).
قلنا: لا نسلّم أنّه لم يبق إلاّ المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع; لأنّ أحداً لا يساوي رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم، لا عليّاً ولا غيره.
وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة، قال تعالى في قصّة الإفك: (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً) وقد قال في قصّة بني إسرائيل: (فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ) أي: يقتل بعضكم بعضاً، ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين، ولا أن يكون مَن عبدالعجل مساوياً لمن لم يعبده.
وكذلك قد قيل في قوله: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، وإن كانوا غير متساوين.
وقال تعالى: (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) أي: لا يلمز بعضكم بعضاً فيطعن عليه ويعيبه، وهذا نهي لجميع المؤمنين أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن، مع أنّهم غير متساوين لا في الأحكام ولا في الفضيلة، ولا الظالم كالمظلوم، ولا الإمام كالمأموم.
ومن هذا الباب قوله تعالى: (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) أي: يقتل بعضكم بعضاً.
وإذا كان اللفظ في قوله: (وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) كاللفظ في قوله: (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ).. (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً) ونحو ذلك، مع أنّ التساوي هنا ليس بواجب، بل ممتنع، فكذلك هناك وأشدّ.
بل هذا اللفظ يدلّ على المجانسة والمشابهة، والتجانس والمشابهة يكون بالاشتراك في بعض الأُمور، كالاشتراك في الإيمان، فالمؤمنون إخوة في الإيمان، وهو المراد بقوله: (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً) وقوله: (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ).
وقد يكون بالاشتراك في الدين، وإن كان فيهم المنافق، كاشتراك المسلمين في الإسلام الظاهر، وإن كان مع ذلك الإشتراك في النسب فهو أوكد، وقوم موسى كانوا (أَنفُسَنَا) بهذا الاعتبار.
قوله تعالى: (تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) أي: رجالنا ورجالكم، أي: الرجال الّذين هم من جنسنا في الدين والنسب، والرجال الّذين هم من جنسكم، والمراد التجانس في القرابة فقط; لأنّه قال: (أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ)فذكر الأولاد وذكر النساء والرجال، فعُلم أنّه أراد الأقربين إلينا من الذكور والإناث من الأولاد والعصبة; ولهذا دعا الحسن والحسين من الأبناء، ودعا فاطمة من النساء، ودعا عليّاً من رجاله، ولم يكن عنده أحد أقرب إليه نسباً من هؤلاء، وهم الّذين أدار عليهم الكساء.
والمباهلة إنّما تحصل بالأقربين إليه، وإلاّ فلو باهل بالأبعدين في النسب وإن كانوا أفضل عند اللّه لم يحصل المقصود، فإنّ المراد أنّهم يدعون الأقربين كما يدعو هو الأقرب إليه.
والنفوس تحنو على أقاربها ما لا تحنو على غيرهم، وكانوا يعلمون أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، ويعلمون أنّهم إن باهلوه نزلت البهلة عليهم وعلى أقاربهم، واجتمع خوفهم على أنفسهم وعلى أقاربهم، فكان ذلك أبلغ في امتناعهم وإلاّ فالإنسان قد يختار أن يهلك ويحيا ابنه، والشيخ الكبير قد يختار الموت إذا بقي أقاربه في نعمة ومال، وهذا موجود كثير، فطلب منهم المباهلة بالأبناء والنساء والرجال والأقربين من الجانبين، فلهذا دعا هؤلاء.
وآية المباهلة نزلت سنة عشر، لمّا قدم وفد نجران، ولم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم قد بقي من أعمامه إلاّ العبّاس، والعبّاس لم يكن من السابقين الأوّلين، ولا كان له به اختصاص كعليٍّ.
وأمّا بنو عمّه، فلم يكن فيهم مثل عليٍّ، وكان جعفر قد قُتل قبل ذلك، فإنّ المباهلة كانت لمّا قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر، وجعفر قُتل بمؤتة سنة ثمان، فتعيّن عليّ رضي اللّه عنه.
وكونه تعيّن للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه، لا يوجب أن يكون مساوياً للنبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم في شيء من الأشياء، بل ولا أن يكون أفضل من سائر الصحابة مطلقاً، بل له بالمباهلة نوع فضيلة، وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين، ليست من خصائص الإمامة، فإنّ خصائص الإمامة لا تثبت للنساء، ولا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة، كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة.
وأما قول الرافضيّ: لو كان غير هؤلاء مساوياً لهم أو أفضل منهم في استجابة الدعاء، لأمره تعالى بأخذهم معه; لأنّه في موضع الحاجة.
فيقال في الجواب: لم يكن المقصود إجابة الدعاء، فإنّ دعاء النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وحده كاف، ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلّهم ودعا بهم، كما كان يستسقي بهم وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، وكان يقول: وهل تُنصرون أو تُرزقون إلاّ بضعفائكم؟! بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم!
ومن المعلوم أنّ هؤلاء وإن كانوا مجابين، فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة، لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل!
ونحن نعلم بالاضطرار أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة، لكانوا أعظم الناس استجابةً لأمره، وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء، لكن لم يأمره اللّه سبحانه بأخذهم معه، لأنّ ذلك لا يحصل به المقصود.
فإنّ المقصود أن أُولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً، كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الّذين هم أقرب الناس إليهم، فلو دعا النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم قوماً أجانب لأتى أولئك بأجانب، ولم يكن يشتدّ عليه نزول البهلة بأولئك الأجانب، كما يشتدّ عليهم نزولها بالأقربين إليهم، فإن طبع البشر يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم أن يدعو قرابته وأن يدعو أولئك قرابتهم.
والناس عند المقابلة تقول كلّ طائفة للاُخرى: ارهنوا عندنا أبناءكم ونساءكم، فلو رهنت إحدى الطائفتين أجنبيّاً لم يرض أُولئك، كما أنّه لو دعا النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم الأجانب لم يرض أُولئك المقابلون له، ولا يلزم أن يكون أهل الرجل أفضل عند اللّه إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله.
فقد تبيّن أنّ الآية لا دلالة فيها أصلا على مطلوب الرافضي.
لكنّه ـ وأمثاله ممّن في قلبه زيغ ـ كالنصارى الّذين يتعلّقون بالألفاظ المجملة ويدعون النصوص الصريحة، ثمّ قدحه في خيار الأُمّة بزعمه الكاذب، حيث زعم أنّ المُراد بالأنفس المساوون، وهو خلاف المستعمل في لغة العرب.
وممّا يبيّن ذلك أنّ قوله: (نِسَاءنَا) لا يختصّ بفاطمة، بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك، لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلاّ فاطمة، فإنّ رقيّة وأم كلثوم وزينب كنّ قد توفّين قبل ذلك.
فكذلك (أَنفُسَنَا) ليس مختصّاً بعليٍّ، بل هذه صيغة جمع، كما أنّ (نِسَاءنَا) صيغة جمع، وكذلك (أَبْنَاءنَا) صيغة جمع، وإنّما دعا حسناً وحسيناً لأنّه لم يكن ممن يُنسب إليه بالبنوّة سواهما، فإنّ إبراهيم إن كان موجوداً إذ ذاك فهو طفل لا يُدعى، فإنّ إبراهيم هو ابن مارية القبطيّة التي أهداها له المقوقس صاحب مصر، وأهدى له البغلة ومارية وسيرين، فأعطى سيرين لحسّان بن ثابت، وتسرّى مارية فولدت له إبراهيم، وعاش بضعة عشر شهراً ومات، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: إنّ له مرضعاً في الجنّة تتمّ رضاعته، وكان إهداء المقوقس بعد الحديبيّة بل بعد حنين»(3).
أقول:
كان هذا نص كلام ابن تيميّة في مسألة المباهلة، وقد جاء فيه:
1 ـ الاعتراف بصحّة الحديث.
وفيه ردُّ على المشكّكين في صحّته وثبوته عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
2 ـ الاعتراف باختصاص القضية بالأربعة الأطهار.
وفيه ردّ على المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام، المحرّفين للحديث بنقص «عليٍّ» منهم أو زيادة غيرهم عليهم!!
3 ـ الاعتراف بأنّهم هم الّذين أدار عليهم الكساء.
وفيه ردُّ على من زعم دخول غيرهم في آية التطهير، بل فيه دلالة على تناقض ابن تيميّة، لزعمه ـ في موضع من منهاجه ـ دخول الأزواج أخذاً بالسياق.
4 ـ الاعتراف بأنّ في المباهلة نوع فضيلة لعليٍّ.
وفيه ردّ على من يحاول إنكار ذلك.
ثمّ إنّ ابن تيميّة ينكر دلالة الحديث على الإمامة مطلقاً، بكلام مضطرب مشتمل على التهافت، وعلى جواب ـ قال الدّهلوي عنه: ـ هو من كلام النواصب!!
* فأوّل شيء قاله هو: إنّ أحداً لا يساوي رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم.
ونحن أيضاً نقول: إنّ أحداً لا يساويه لولا الآية والأحاديث القطعيّة الواردة عنه، كقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «عليّ منّي وأنا من عليّ، وهو وليّكم بعدي»(4) وقوله ـ في قصّة سورة البراءة ـ : «لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي»(5).
وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ لوفد ثقيف ـ : «لُتُسْلِمنّ أو لأبعثنّ عليكم رجلا منّي ـ أو قال: مثل نفسي ـ ليضربنَّ أعناقكم وليسبينّ ذراريكم، وليأخذنّ أموالكم» قال عمر: فواللّه ما تمنّيت الإمارة إلاّ يومئذ، فجعلت أنصب صدري رجاء أن يقول: هو هذا. فالتفت إلى عليٍّ فأخذ بيده وقال: «هو هذا هو هذا»(6).
وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم منزّلا إيّاه منزلة نفسه: «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» فاستشرف له أبو بكر وعمر وغيرهما، كلّ يقول: أنا هو؟ قال: لا; ثمّ قال: «ولكن خاصف النعل» وكان قد أعطى عليّاً نعله يخصفها(7).
إلى غير ذلك من الأحاديث.
فإذا كان هذا قول اللّه وكلام الرسول، فماذا نفعل نحن؟!
* ثمّ إنّه أنكر دلالة لفظ «الأنفس» على «المساواة» في لغة العرب، فقال بأنّ المراد منه في الآية هو من يتّصل بالقرابة، واستشهد لذلك بآيات من القرآن.
لكن ماذا يقول ابن تيميّة في الآيات التي وقع فيها المقابلة بين: «النفس» و «الأقرباء» كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)(8) وقوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ)(9)فكذلك آية المباهلة.
غير أنّ «النفس» في الآيتين المذكورتين مستعملة في نفس الإنسان على وجه الحقيقة، أمّا في آية المباهلة فهي مستعملة ـ لتعذّر الحقيقة ـ على وجه المجاز لمن نُزِّل بمنزلة النفس، وهو عليّ عليه السلام، للحديث القطعي الوارد في القضيّة.
* ثمّ إنّه أكّد كون أخذ الأربعة الأطهار عليهم السلام لمجرّد القرابة بإنكار الإستعانة بهم في الدعاء، فقال: «لم يكن المقصود إجابة الدعاء، فإنّ دعاء النبيّ وحده كاف»!
لكنّه اجتهاد في مقابلة النصّ، فقد روى القوم أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال لهم: «إذا أنا دعوت فأمّنوا»(10)، وأنّه قد عرف أُسقف نجران ذلك حيث قال: «إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها » أو: «لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها»(11).
* ثمّ قال ابن تيميّة: «لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل… فإنّ المقصود أنّ أُولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً كأبنائهم ونسائهم ورجالهم…».
وهذا كلام النواصب… كما نصّ عليه الدهلوي في عبارته الآتية.
وحاصل كلامه: أنّه إنّما دعاهم لكونهم أقرباءه فقط، على ما كان عليه المتعارف في المباهلة، فلا مزيّة لمن دعاه أبداً، فلا دلالة في الآية على مطلوب الشيعة أصلا، لكنّهم كالنصارى…!!
لكنّه يعلم بوجود الكثيرين من أقربائه ـ من الرجال والنساء ـ وعلى رأسهم عمّه العبّاس، فلو كان التعبير بالنفس لمجرّد القرابة لدعا العبّاس وأولاده وغيرهم من بني هاشم!
فيناقض نفسه ويرجع إلى الاعتراف بمزيّة لمن دعاهم، وأنّ المقام ليس مقام مجرّد القرابة…!! انظر إلى كلامه:
«ولم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم قد بقي من أعمامه إلاّ العبّاس، والعبّاس لم يكن من السابقين الأوّلين، ولا كان له به اختصاص كعليٍّ، وأما بنو عمّه فلم يكن فيهم مثل عليٍّ… فتعيّن عليّ رضي اللّه عنه.
وكونه تعيّن للمباهلة إذ ليس في الأقارب ممن يقوم مقامه لا يوجب… بل له بالمباهلة نوع فضيلة…».
إذن!! لابُدّ في المباهلة من أن يكون المباهل به صاحب مقام يمتاز به عن غيره، ويقدّمه على من سواه، وقد ثبت ذلك لعليٍّ عليه السلام بحيث ناسب أن يأمر اللّه رسوله بأن يعبّر عنه لأجله بأنّه نفسه، وهذا هو المقصود من الاستدلال بالآية المباركة، وبه يثبت المطلوب.
فانظر كيف اضطربت كلمات الرجل وناقض نفسه!!
* غير أنّه بعد الإعتراف بالفضيلة تأبى نفسه السكوت عليها، وإذ لا يمكنه دعوى مشاركة زيد وعمر وبكر…!! معه فيها كما زعم ذلك في غير موضع من كتابه فيقول:
«وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين…».
وهكذا قال ـ في موضع من كتابه ـ حول آية التطهير لمّا لم يجد بُدّاً من الإعتراف باختصاصها بأهل البيت… .
لكنّه غفل أو تغافل أنّ هذه المشاركة لا تضّر باستدلال الشيعة بل تنفع، إذ تكون الآية من جملة الدلائل القطعيّة على أفضليّة بضعة النبيّ فاطمة وولديه الحسنين عليهم السلام من سائر الصحابة عدا أمير المؤمنين عليه السلام ـ كما دلّ على ذلك حديث: «فاطمة بضعة منّي…» وقد بيّنا ذلك سابقاً ـ فعليّ هو الإمام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه]وآله [وسلّم بالآية المباركة والحديث القطعي الوارد في شأن نزولها.
* وقال أبو حيّان:
«(نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ).
أي: يدع كلٌ منّي ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وظاهر هذا أنّ الدعاء والمباهلة بين المخاطب بـ(قل) وبين من حاجّه. وفُسّر على هذا الوجه الأبناء بالحسن والحسين، والنساء بفاطمة، والأنفس بعليٍّ. قاله الشعبي. ويدلّ على أنّ ذلك مختصُّ بالنبيّ مع من حاجّه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقّاص، قال: لمّا نزلت هذه الآية (تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم فاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللّهمّ هؤلاء أهلي.
وقال قوم: المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين، بدليل ظاهر قوله (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) على الجمع، ولمّا دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته، ولو عزم نصارى نجران على المباهلة وجاؤا لها لأمر النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته.
وقيل: المراد بـ(أَنفُسَنَا) الإخوان. قاله ابن قتيبة. قال تعالى: (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) أي: إخوانكم.
وقيل: أهل دينه. قاله أبو سليمان الدمشقي.
وقيل: الأزواج.
وقيل: أراد القرابة القريبة. ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري.
… قال أبو بكر الرازي: وفي الآية دليل على أنّ الحسن والحسين ابنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم.
وقال أبو أحمد ابن علاّن: كانا إذ ذاك مكلَّفين، لأنّ المباهلة عنده لا تصحّ إلاّ من مكلّف.
وقد طوّل المفسّرون بما رووا في قصّة المباهلة، ومضمنها: أنّه دعاهم إلى المباهلة وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليٍّ إلى الميعاد، وأنّهم كفّوا عن ذلك ورضوا بالإقامة على دينهم، وأن يؤدّوا الجزية، وأخبرهم أحبارهم أنّهم إن باهلوا عُذّبوا وأخبر هو صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم أنّهم إن باهلوا عذّبوا، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحّة نبوّته.
قال الزمخشري: فإن قلت…»(12).
أقول:
لعلّ تقديمه حديث مسلم عن سعد في أنّ المراد من (أَنفُسَنَا)هو عليٌّ عليه السلام… يدلّ على ارتضائه لهذا المعنى… لكنّ الحديث جاء في الكتاب محرّفاً بحذف «عليّ»!!
وليته لم يذكر الأقاويل الأُخرى، فإنّها هواجس نفسانية وإلقاءات شيطانيّة، لا يجوز إيرادها بتفسير الآيات القرآنيّة.
لكن يظهر منه الإعتماد على هذه الأقوال!! حين ينفي بها الإجماع على أنّ المُراد من (أَنفُسَنَا) هو عليّ عليه السلام، ليبطل استدلال الشيخ الحمصي بالآية على أفضليّة الإمام على سائر الأنبياء.
* وقال القاضي الإيجي وشارحه الجرجاني:
ولهم ـ أي للشيعة ومن وافقهم ـ فيه أي ـ في بيان أفضلية علي ـ مسلكان:
الأوّل: ما يدلّ عليه ـ أي على كونه أفضل ـ إجمالا، وهو وجوه: الأوّل: آية المباهلة، وهي قوله تعالى: (تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ). وجه الإحتجاج: إنّ قوله تعالى: (أَنفُسَنَا) لم يرد به نفس النبيّ، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به عليّ، دلّت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل إنّه عليه السلام دعا عليّاً إلى ذلك المقام، وليس نفس عليٍّ نفس محمّد حقيقة، فالمراد المساواة في الفضل والكمال، فترك العمل به في فضيلة النبوة وبقي حجةً في الباقي، فيساوي النبيّ في كلّ فضيلة سوى النبوّة، فيكون أفضل من الأُمة.
وقد يمنع: إن المراد بـ(أَنفُسَنَا) علىٌّ وحده، بل جميع قراباته وخدمه النازلون عرفاً منزلة نفسه عليه السلام داخلون فيه، تدلّ عليه صيغة الجمع»(13).
أقول:
لا يخفى اعترافهما بدلالة الآية على الأفضليّة، وبكون عليٍّ في المباهلة، «دلّت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل» وبدلالة (أَنفُسَنَا) على «المساواة».
غير انّهما زعما دخول غيره معه في ذلك، لكنّهما قالا: «وقد يمنع» وكأنّهما ملتفتان إلى بطلان ما زعماه، خصوصاً كون المراد «خدمه» بالاضافة إلى «جميع قراباته»، فإنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يُخرِج معه حتى عمّه، فكيف يكون المراد «جميع قراباته وخدمه»؟!!
* وقال ابن روزبهان:
«كان عادة أرباب المباهلة أن يجمعوا أهل بيتهم وقراباتهم لتشمل البهلة سائر أصحابهم، فجمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم أولاده ونساءه، والمراد بالأنفس هاهنا: الرجال، كأنّه أمر بأن يجمع نساءه وأولاده ورجال أهل بيته، فكان النساء فاطمة والأولاد الحسن والحسين والرجال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم وعليّ.
وأمّا دعوى المساواة التي ذكرها فهي باطلة قطعاً، وبطلانها من ضروريات الدين، لأن غير النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم من الأُمّة لا يساوي النبيّ أصلا، ومن ادّعى هذا فهو خارج عن الدين، وكيف يمكن المساواة والنبيّ نبي مرسل خاتم الأنبياء أفضل أُولي العزم، وهذه الصفات كلّها مفقودة في عليٍّ. نعم، لأمير المؤمنين عليّ في هذه الآية فضيلة عظيمة وهي مسلّمة، ولكن لا تصير دالّةً على النصّ بإمامته»(14).
أقول:
وفي كلامه مطالب ثلاثة:
الأوّل: إنّ ما صنعه النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم إنّما كان جرياً على عادة أرباب المباهلة… .
وهذا كلام النواصب في الجواب عن هذه الآية، كما نصَّ عليه صاحب «التحفة الاثنا عشرية»، ويرد عليه ما تقدّم من أنّه لو كان كذلك فلماذا لم يخرج العبّاس وبنيه وأمثالهم من الأقرباء؟ لكنّ فعل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم دليل على أنّ للمقام خصوصيةً ولمن دعاهم مراتب عند اللّه تعالى، وليس جرياً على عادة العرب في مباهلة البعض مع البعض.
والثاني: إنّ غير النبيّ من الأُمّة لا يساوي النبيّ أصلا.
وقد تقدّم الجواب عنه عند الكلام مع ابن تيميّة.
والثالث: إنّ لأمير المؤمنين في هذه الآية فضيلة عظيمة، وهي مسلّمة.
قلت: هي للأربعة كلّهم لكنّ عليّاً أفضلهم، فهو الإمام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
قوله: لكن لا تصير دالّة على النصّ بإمامته.
قلت: إنّ الآية تدلّ على المساواة بينه وبين النبيّ في الكمالات الذاتيّة، ولا أقلّ من كونها دالّةً على فضيلة عظيمة ـ باعترافه ـ غير حاصلة لخصومه، فهو الأفضل، فهو الإمام دون غيره بعد رسول اللّه.
* وقال عبدالعزيز الدهلوي ما تعريبه:
«ومنها آية المباهلة، وطريق تمسّك الشيعة بهذه الآية هو أنّه لمّا نزلت (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ..) خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم من بيته ومعه عليّ وفاطمة وحسن وحسين، فالمراد من (أَبْنَاءنَا) الحسن والحسين، ومن (أَنفُسَنَا) الأمير، وإذا صار نفس الرسول ـ وظاهرٌ أنّ المعنى الحقيقي لكونه نفسه محال ـ فالمراد هو المساوي، ومَن كان مساوياً لنبيّ عصره كان بالضرورة أفضل وأَولى بالتصرّف من غيره; لأنّ المساوي للأفضل الأَولى بالتصرّف، أفضلُ وأَولى بالتصرّف، فيكون إماماً، إذ لا معنى للإمام إلاّ الأفضل الأَولى بالتصرّف.
هذا بيان وجه الإستدلال، ولا يخفى أنّه بهذا التقريب غير موجود في كلام أكثر علماء الشيعة، فلهذه الرسالة الحقّ عليهم من جهة تقريرها وتهذيبها لأكثر أدلّتهم، ومن شكّ في ذلك فلينظر إلى كتبهم ليجد كلماتهم متشتتة مضطربة قاصرة عن إفادة مقصدهم.
وهذه الآية في الأصل من جملة دلائل أهل السُنّة في مقابلة النواصب، وذلك لأنّ أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم الأمير وأُولئك الأجلّة معه، وتخصيصهم بذلك دون غيرهم يحتاج إلى مرجّح، وهو لا يخلو عن أمرين:
فإمّا لكونم أعزّةً عليه، وحينئذ يكون إخراجهم للمباهلة ـ وفيها بحسب الظاهر خطر المهلكة ـ موجباً لقوّة وثوق المخالفين بصدق نبوّته وصحّة ما يخبر به عن عيسى وخلقته، إذ العاقل ما لم يكن جازماً بصدق دعواه لا يعرّض أعزّته إلى الهلاك والاستئصال.
وهذا الوجه مختار أكثر أهل السنّة والشيعة، وهو الذي ارتضاه عبداللّه المشهدي في إظهار الحقّ، فدلّت الآية على كون هؤلاء الأشخاص أعزّةً على رسول اللّه، والأنبياء مبرّأون عن الحبّ والبغض النفسانيّين، فليس ذلك إلاّ لدينهم وتقواهم وصلاحهم، فبطل مذهب النواصب القائلين بخلاف ذلك.
وإما لكي يشاركونه في الدعاء على كفّار نجران، ويعينونه بالتأمين على دعائه عليهم فيستجاب بسرعة، كما يقول أكثر الشيعة وذكره عبداللّه المشهدي أيضاً، فتدلّ الآية ـ بناءً عليه كذلك ـ على علوّ مرتبتهم في الدّين وثبوت استجابة دعائهم عند اللّه.
وفي هذا أيضاً ردّ على النواصب.
وقد قدح النواصب في كلا الوجهين وقالوا: بأنّ إخراجهم لم يكن لشيء منهما، وإنّما كان لإلزام الخصم بما هو مسلّم الثبوت عنده، إذ كان مسلَّماً عند المخالفين ـ وهم الكفّار ـ أنّ البهلة لا تعتبر إلاّ بحضور الأولاد والختن والحلف على هلاكهم، فلذا أخرج النبيّ أولاده وصهره معه ليلزمهم بذلك.
وظاهر أنّ الأقارب والأولاد ـ كيفما كانوا ـ يكونون أعزّةً على الإنسان في اعتقاد الناس وإن لم يكونوا كذلك عند الإنسان نفسه، يدلّ على ذلك أنّه لو كان هذا النوع من المباهلة حقّاً عنده صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم لكان سائغاً في الشريعة، والحال أنّه ممنوع فيها. فظهر أن ما صنعه إنّما كان إسكاتاً للخصم.
وعلى هذا القياس يسقط الوجه الثاني أيضاً، فإنّ هلاك وفد نجران لم يكن من أهمّ المهمّات، فقد مرّت عليه حوادث كانت أشدّ وأشقّ عليه من هذه القضيّة، ولم يستعن في شيء منها في الدعاء بهؤلاء، على أنّ من المتّفق عليه استجابة دعاء النبي في مقابلته مع الكفّار، وإلاّ يلزم تكذيبه ونقض الغرض من بعثته.
فهذا كلام النواصب، وقد أبطله ـ بفضل اللّه تعالى ـ أهل السُنّة بما لا مزيد عليه كما هو مقرّر في محلّه، ولا نتعرّض له خوفاً من الإطالة.
وعلى الجملة، فإنّ آية المباهلة هي في الأصل ردّ على النواصب، لكنّ الشيعة يتمسّكون بها في مقابلة أهل السُنّة، وفي تمسّكهم بها وجوه من الإشكال:
أمّا أوّلا: فلأنّا لا نسلّم أن المُراد (بأَنفُسَنَا) هو الأمير، بل المراد نفسه الشريفة، وقول علمائهم في إبطال هذا الاحتمال بأنّ الشخص لا يدعو نفسه غير مسموع، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث «دعته نفسه إلى كذا» و «دعوت نفسي إلى كذا» (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) و «أمرت نفسي» و «شاورت نفسي» إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء. فيكون حاصل (نَدْعُ أَنفُسَنَا): نحضر أنفسنا.
وأيضاً: فلو قررّنا الأمير من قبل النبيّ مصداقاً لقوله (أَنفُسَنَا)فمَن نقرّره مِن قبل الكفّار مع أنّهم مشتركون في صيغة (نَدْعُ). إذ لا معنى لدعوة النبيّ إيّاهم وأبناءهم بعد قوله: (تَعَالَوْاْ).
فظهر أنّ الأمير داخل في (أَبْنَاءنَا) ـ كما أنّ الحسنين غير داخلين في الأبناء حقيقةً وكان دخولهما حُكماً ـ لأنّ العرف يعدّ الختن ابناً، من غير ريبة في ذلك.
وأيضاً: فقد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملّة، ومن ذلك قوله تعالى: (يخرجون أنفسهم من ديارهم) أي: أهل دينهم.. (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ).. (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً). فلمّا كان للأمير اتّصال بالنبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم في النسب والقرابة والمصاهرة واتّحاد في الدين والملّة، وقد كثرت معاشرته والأُلفة معه حتى قال: «عليّ منّي وأنا من عليّ» كان التعبير عنه بالنفس غير بعيد، فلا تلزم المساواة كما لا تلزم في الآيات المذكورة.
وأمّا ثانياً: فلو كان المراد مساواته في جميع الصفات، يلزم الاشتراك في النبوّة والخاتميّة والبعثة إلى كافّة الخلق، والاختصاص بزيادة النكاح فوق الأربع، والدرجة الرفيعة في القيامة، والشفاعة الكبرى والمقام المحمود، ونزول الوحي، وغير ذلك من الأحكام المختصّة بالنبيّ، وهو باطل بالإجماع.
ولو كان المراد المساواة في البعض، لم يحصل الغرض، لأنّ المساواة في بعض صفات الأفضل والأَولى بالتصرّف لا تجعل صاحبها أفضل وأَولى بالتصرّف، وهو ظاهراً جداً.
وأيضاً: فإنّ الآية لو دلّت على إمامة الأمير، لزم كونه إماماً في زمن النبيّ وهو باطل بالاتّفاق، فإن قيّد بوقت دون وقت ـ مع أنّه لا دليل عليه في اللفظ ـ لم يكن مفيداً للمدّعى; لأن أهل السُنّة أيضاً يثبتون إمامته في وقت من الأوقات»(15).
أقول:
وفي كلامه مطالب:
1 ـ دعوى أنّ التقريب الذي ذكره للاستدلال بالآية غير وارد في أكثر كتب الشيعة، قال: «وكذلك الأدلّة الأُخرى غالباً،…».
وأنت ترى كذب هذه الدعوى بمراجعتك لوجه الاستدلال في بحثنا هذا، إذ تجد العبارة مذكورة في كتب أصحابنا إمّا باللفظ وإمّا بما يؤدّي معناه; فلا نطيل.
2 ـ نسبة المناقشة في دلالة الآية المباركة. بما ذكره إلى النواصب، وأنّ أهل السُنّة يدافعون عن أهل البيت في قبال أُولئك… .
وقد وجدنا ما عزاه إلى النواصب في كلام ابن تيمية وابن روزبهان، في ردّهما على العلاّمة الحلّي، فالحمد للّه الذي كشف عن حقيقة حالهم بما أجراه على لسانهم… .
3 ـ عدم التسليم بأنّ المراد من (أَنفُسَنَا) هو «عليّ» بل المعنى: «نحضر أنفسنا»، واستشهد ـ في الردّ على قول الإمامية بأنّ الشخص لا يدعو نفسه ـ بعبارات شائعة في كلام العرب في القديم والحديث كما قال.
ونحن لا نناقشه في المعاني المجازيّة لتلك العبارات، ونكتفي بالقول ـ مضافاً إلى اعتراف غير واحد من أئمّة القوم بأنّ الإنسان الداعي إنّما يدعو غيره لا نفسه(16) ـ بأنّ الأحاديث القطعيّة عند الفريقين دلّت على أنّ المراد من (وَأَنفُسَنَا) هو عليّ عليه السلام، فما ذكره يرجع في الحقيقة إلى عدم التسليم بتلك الأحاديث وتكذيب رواتها ومخرّجيها، وهذا ما لا يمكنه الالتزام به.
4 ـ إدخال عليٍّ عليه السلام في (أَبْنَاءنَا)..!!
وفيه: أنّه مخالفٌ للنصوص.
ولا يخفى أنّه محاولة لإخراج الآية عن الدلالة على كون عليٍّ نفس النبيّ، لعلمه بالدلالة حينئذ على المساواة، وإلاّ فإدخاله في (أَبْنَاءنَا) أيضاً اعترافٌ بأفضليّته!!
واستشهاده بالآيات مردود بما عرفت في الكلام مع ابن تيميّة.
على أنّه اعترف بحديث «عليّ منّي وأنا من عليّ» وهو ممّا لا يعترف به ابن تيميّة وسائر النواصب.
5 ـ ردّه على المساواة بأنّه: إن كان المراد المساواة في جميع الصفات، يلزم المساواة بين عليٍّ والنبيّ في النبوّة والرسالة والخاتميّة والبعثة إلى الخلق كافة ونزول الوحي… وإن كان المراد المساواة في بعض الصفات فلا يفيد المدّعى… .
قلنا: المراد هو الأوّل، إلاّ النبوّة، والأُمور التي ذكرها من الخاتميّة والبعثة… كلّها من شؤون النبّوة… .
فالآية دالة على حصول جميع الكمالات الموجودة في النبي في شخص عليٍّ، عدا النبوّة، وقد جاء في الحديث عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال لعليّ: «يا عليّ! ما سألتُ اللّه شيئاً إلاّ سألتُ لك مثله، ولا سألت اللّه شيئاً إلاّ أعطانيه، غير إنّه قيل لي: أنّه لا نبيّ بعدك»(17).
6 ـ وبذلك يظهر أنّه عليه السلام كان واجداً لحقيقة الإمامة ـ وهو وجوب الطاعة المطلقة، والأولوّية التامّة بالنسبة للأمّة ـ في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، إلاّ أنّه كان تابعاً للنبيّ مطيعاً له إطاعةً وانقياداً لم يحدّثنا التاريخ به عن غيره على الإطلاق.
فسقط قوله أخيراً: «فإنّ الآية لو دلّت على إمامة الأمير…».
* والآلوسي:
انتحل كلام الدهلوي، بلا زيادة أو نقصان، كبعض الموارد الأُخرى، وجوابه جوابه، فلا نكرّر.
* وقال الشيخ محمّد عبده:
«إنّ الروايات متّفقة على أن النبي صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديها، ويحملون كلمة (نِسَاءنَا) على فاطمة، وكلمة (أَنفُسَنَا) على عليٍّ فقط.
ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتّى راجت على كثير من أهل السُنّة، ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية، فإنّ كلمة (نِسَاءنَا)لا يقولها العربي ويريد بها بنته، لا سيّما إذا كان له أزواج، ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلك أنّ يراد بـ(أَنفُسَنَا) عليّ ـ عليه الرضوان ـ .
ثمّ إنّ وفد نجران الّذين قالوا إنّ الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم»(18).
أقول:
وفي هذا الكلام إقرارٌ، وادعاءٌ، ومناقشة عن عناد.
أمّا الإقرار، فقوله: «إنّ الروايات متّفقة…» فالحمد للّه على أن بلغت الروايات في القضيّة من الكثرة والقوّة حدّاً لا يجد مثل هذا الرجل بُدّاً من أن يعترف بالواقع والحقيقة.
لكنّه لمّا رأى أنّ هذا الإقرار يستلزم الإلتزام بنتيجة الآية المباركة والروايات الواردة فيها، وهذا ما لا تطيقه نفسه!! عاد فزعم أمراً لا يرتضيه عاقل فضلا عن فاضل!
أمّا الادّعاء، فقال: «مصادر هذه الروايات الشيعة… وقد اجتهدوا في ترويجها..».
لكنّه يعلم ـ كغيره ـ بكذب هذه الدعوى، فمصادر هذه الروايات القطعيّة ـ وقد عرفت بعضها ـ ليست شيعيّة. لما كانت دلالتها واضحة «والمقصد منها معروف»، عمد إلى المناقشة بحسب اللغة، وزعم أنّ العربي لا يتكلّم هكذا.
وما قاله محض استبعاد ولا وجه له إلاّ العناد! لأنّا لا نحتمل أن يكون هذا الرجل جاهلا بأنّ لفظ «النساء» يطلق على غير الأزواج كما في القرآن الكريم وغيره، أو يكون جاهلا بأنّ أحداً لم يدّع استعمال اللفظ المذكور في خصوص «فاطمة» وأنّ أحداً لم يدّع استعمال (أَنفُسَنَا) في «عليٍّ» عليه السلام.
إنّ هذا الرجل يعلم بأنّ الروايات صحيحة وواردة من طرق القوم أنفسهم، والاستدلال قائم على أساسها، إذ أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم جعل عليّاً فقط المصداق لـ(أَنفُسَنَا) وفاطمة فقط المصداق لـ(نِسَاءنَا) وقد كان له أقرباء كثيرون وأصحاب لا يحصون… كما كان له أزواج عدّة، والنساء في عشيرته وقومه كثرة.
فلابُدّ أن يكون ذلك مقتضياً لتفضيل عليٍّ عليه السلام على غيره من أفراد الأُمّة، وهذا هو المقصود.
تكميل:
وأمّا تفضيله ـ بالآية ـ على سائر الأنبياء عليهم السلام ـ كما عن الشيخ محمود بن الحسن الحمصي ـ فهذا هو الذي انتقده الفخر الرازي، وتبعه النيسابوري، وأبو حيّان الأندلسي:
* قال الرازي ـ بعد أن ذكر موجز القصّة، ودلالة الآية على أنّ الحسنين إبنا رسول اللّه ـ :
«كان في الريّ رجل يقال له: محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلّم الاثني عشرية(19) وكان يزعم أنّ عليّاً رضي اللّه عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد عليه السلام، قال: والذي يدلّ عليه قوله تعالى: (وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) وليس المراد بقوله (وَأَنفُسَنَا) نفس محمّد صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، واجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه فدلّت الآية على أنّ نفس عليٍّ هي نفس محمّد، ولا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة وفي حقّ الفضل، لقيام الدلائل على أنّ محمّداً عليه السلام كان نبيّاً وما كان عليّ كذلك، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمّداً عليه السلام كان أفضل من عليٍّ، فيبقى فيما وراءه معمولا به.
ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّداً عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام، فيلزم أن يكون عليّ أفضل من سائر الأنبياء.
فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية.
ثمّ قال: ويؤيّد الاستدلال بهذه الآية: الحديث المقبول عند الموافق والمخالف وهو قوله عليه السلام: من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحاً في طاعته، وإبراهيم في خلّته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب.
فالحديث دلّ على أنّه اجتمع فيه ما كان متفرّقاً فيهم، وذلك يدلّ على أن عليّاً رضي اللّه عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم.
وأمّا سائر الشيعة، فقد كانوا ـ قديماً وحديثاً ـ يستدلّون بهذه الآية على أنّ عليّاً رضي اللّه عنه مثل نفس محمّد عليه السلام إلاّ في ما خصّه الدليل، وكان نفس محمّد أفضل من الصحابة، فوجب أن يكون نفس عليّ أفضل من سائر الصحابة.
هذا تقرير كلام الشيعة.
والجواب: إنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً عليه السلام أفضل من عليٍّ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم ـ قبل ظهور هذا الإنسان ـ على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبيّ، وأجمعوا على أنّ عليّاً ما كان نبيّاً، فلزم القطع بأنّ ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حق محمّد صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الأنبياء عليهم السلام». انتهى(20).
* وكذا قال النيسابوري، وهو ملخّص كلام الرازي، على عادته، وقد تقدّم نصّ ما قال.
* وقال أبو حيّان، بعد أن ذكر كلام الزمخشري في الآية المباركة: «ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به محمّد(21) بن علي الحمصي…» فذكر الاستدلال، ثمّ قال: «وأجاب الرازي: بأنّ الإجماع منعقد على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم أفضل ممّن ليس بنبّي، وعلي لم يكن نبيّاً، فلزم القطع بأنّه مخصوص في حقّ جميع الأنبياء».
قال: «وقال الرازي: استدلال الحمصي فاسد من وجوه:
منها قوله: (إنّ الإنسان لا يدعو نفسه) بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه، تقول العرب: دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني. وهذا يسميّه أبو علي بالتجريد.
ومنها قوله: (وأجمعوا على أنّ الذي هو غيره هو عليّ) ليس بصحيح، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنيّ بقوله: (وَأَنفُسَنَا).
ومنها قوله: (فيكون نفسه مثل نفسه) ولا يلزم المماثلة أن تكون في جميع الأشياء، بل تكفي المماثلة في شيء ما، هذا الذي عليه أهل اللغة، لا الذي يقوله المتكلّمون من أنّ المماثلة تكون في جميع صفات النفس، هذا اصطلاح منهم لا لغة، فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة، وهي كونه من بني هاشم، والعرب تقول: هذا من أنفسنا، أي: من قبيلتنا.
وأمّا الحديث الذي استدلّ به فموضوع لا أصل له»(22).
أقول:
ويبدو أنّ الرازي هنا وكذا النيسابوري أكثر إنصافاً للحقّ من أبي حيّان; لأنّهما لم يناقشا أصلا في دلالة الآية المباركة والحديث القطعي على أفضليّة عليٍّ عليه السلام على سائر الصحابة.
أمّا في الاستدلال بها على أفضليّته على سائر الأنبياء فلم يناقشا بشيء من مقدّماته، إلاّ أنّهما أجابا بدعوى الإجماع من جميع المسلمين ـ قبل ظهور الشيخ الحمصي ـ على أنّ الأنبياء أفضل من غيرهم.
وحينئذ يكفي في ردّهما نفي هذا الإجماع، فإنّ الإماميّة ـ قبل الشيخ الحمصي وبعده ـ قائلون بأفضليّة عليّ والأئمة من ولده، على جميع الأنبياء عدا نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ويستدلّون لذلك بوجوه من الكتاب والسُنّة، أمّا من الكتاب فالآية المباركة، وأمّا من السُنّة فالحديث الذي ذكره الحمصي… .
وقد عرفت أنّ الرازي والنيسابوري لم يناقشا فيهما.
ومن متقدّمي الإماميّة القائلين بأفضليّة أمير المؤمنين على سائر الأنبياء هو: الشيخ المفيد، المتوفّى سنة 413، وله في ذلك رسالة، استدلّ فيها بآية المباهلة، واستهلّ كلامه بقوله: «فاستدلّ به من حكم لأمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه بأنّه أفضل من سالف الأنبياء عليهم السلام وكافّة الناس سوى نبيٍّ الهدى محمّد عليه وآله السلام بأن قال…» وهو صريح في أنّ هذا قول المتقدّمين عليه(23).
فظهر سقوط جواب الرازي ومن تبعه.
لكنّ أبا حيّان نسب إلى الرازي القول بفساد استدلال الحمصي من وجوه ـ ولعلّه نقل هذا من بعض مصنّفات الرازي غير التفسير ـ فذكر ثلاثة وجوه:
أمّا الأوّل: فبطلانه ظاهر من غضون بحثنا، على أنّ الرازي قررّه ولم يشكل عليه، فإن كان ما ذكره أبو حيّان من الرازي حقّاً فقد ناقض نفسه.
وأمّا الثاني: فكذلك، لأنها أقوال لا يعبأ بها، إذ الموجود في صحيح مسلم، وجامع الترمذي، وخصائص النسائي، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم… وغيرها… أنّ الذي هو غيره هو عليّ لا سواه… وهذا هو القول المتّفق عليه بين العامّة والخاصّة، وهم قد ادّعوا الإجماع ـ من السلف والخلف ـ على أن صحيحي البخاري ومسلم أصحّ الكتب بعد القرآن، ومنهم من ذهب إلى أن صحيح مسلم هو الأصحّ منهما.
وأمّا الثالث: فيكفي في الردّ عليه ما ذكره الرازي في تقرير كلام الشيعة في الاستدلال بالآية المباركة، حيث قال: «وذلك يقتضي الاستواء من جميع الوجوه…» فإن كان ما ذكره أبو حيّان من الرازي حقّاً فقد ناقض نفسه.
على أنّه إذا كان «تكفي المماثلة في صفة واحدة، وهي كونه من بني هاشم» فلماذا التخصيص بعليٍّ منهم دون غيره؟!
بقي حكمه بوضع الحديث الذي استدلّ به الحمصي، وهذا حكم لا يصدر إلآّ من جاهل بالأحاديث والآثار، أو من معاند متعصّب; لأنّه حديث متفق عليه بين المسلمين، ومن رواته من أهل السُنّة: عبدالرزاق بن همّام، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، والحاكم النيسابوري، وابن مردويه، والبيهقي، وأبو نعيم، والمحبّ الطبري، وابن الصبّاغ المالكي، وابن المغازلي الشافعي…(24).
هذا تمام الكلام على آية المباهلة. وباللّه التوفيق.

(1) المغني في الإمامة: 20 القسم 1 / 142.
(2) أوردنا كلامه بطوله، ليظهر أنّ غيره تبع له ولئلاّ يظن ظان أنا تركنا منه شيئاً له تأثير في البحث!
(3) منهاج السُنّة 7 / 122 ـ 130.
(4) هذا حديث الولاية، وهو من أصحّ الأحاديث وأثبتها، وقد بحثنا عنه سنداً ودلالةً في الجزء الخامس عشر من أجزاء كتابنا الكبير «نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار».
(5) وهذا أيضاً من أصحّ الأحاديث وأثبتها، راجع: مسند أحمد 1 / 3، 151، وصحيح الترمذي، والخصائص للنسائي، والمستدرك على الصحيحين، وراجع التفاسير في سورة البراءة.
(6) راجع: الاستيعاب 3 / 1109، ترجمة أمير المؤمنين.
(7) أخرجه أحمد 3 / 33، والحاكم 3 / 122، والنسائي في الخصائص، وابن عبدالبر وابن حجر وابن الأثير بترجمته. وكذا غيرهم.
(8) سورة التحريم 66 : 6.
(9) سورة الزمر 39 : 15، وسورة الشورى 42 : 45 .
(10) تقدّم ذكر بعض مصادره.
(11) الكشّاف، الرازي، البيضاوي وغيرهم، بتفسير الآية.
(12) البحر المحيط 2 / 479 ـ 480.
(13) شرح المواقف 8 / 367.
(14) إبطال الباطل. راجع: إحقاق الحق 3 / 62.
(15) التحفة الاثنا عشرية: 206 ـ 207. وقد ذكرنا كلامه بطوله لئلاّ يظنّ ظانّ أنا أسقطنا منه شيئاً ممّا له دخل في البحث مع الشيعة حول الآية المباركة.
(16) لاحظ: شيخ زادة على البيضاوي 1 / 634.
(17) أخرجه جماعة، منهم النسائي في الخصائص: ح 146 و ح 147.
(18) تفسير المنار 3 / 322.
(19) وهو صاحب كتاب «المنقذ من التقليد»، وفي بعض المصادر أن الفخر الرازي قرأ عليه، توفّي في أوائل القرن السابع، كما في ترجمته بمقدّمة كتابه المذكور، طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة ـ قم.
(20) تفسير الرازي 8 / 81.
(21) كذا، والصحيح: محمود.
(22) البحر المحيط 2 / 480.
(23) تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام على سائر الصحابة. رسالة مطبوعة في المجلّد السابع من موسوعة مصنّفات الشيخ المفيد.
(24) وقد بحثنا عن أسانيده وأوضحنا وجوه دلالاته في الجزء التاسع عشر من كتابنا الكبير «نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *